على أني - وحقاً أقول - أحسّ الآن في نفسي معاني كثيرة يلهمني إياها هذا البحر العظيم الذي نبتت حضارة الإنسانية على شواطئه، وحوت أعظم وقائع البشر صفحاته، ولا يزال تاريخ البشر يسكن إذا سكن ويهيج إذا هاج. كم وعى التاريخ من حادثات على سواحل هذا اليم العظيم وعلى أمواجه!
ألم يكن العرب فوق هذا البحر سلطان أعظم من لججه، وعزمات أهوال من أمواجه؟ إن دولتهم لم تبلغ من عمرها خمس عشرة سنة حتى طمحت إليه، ومدت سلطانها عليه؛ ولم تبلغ العشرين حتى جالدت الروم فيه، وحطمت أساطيلهم بأسطولها، وشهد العالم أعجب وقائع البحار: العرب الذين لم يعرفوا إلا الإبل سفن الصحراء، يغلبون الروم في البحر! أجل، هزموهم في موقعة ذات الصواري سنة إحدى وثلاثين. ثم فتح العرب الجزر الشرقية، ثم سارت من بعدُ أساطيل بني الأغلب لفتح صقلية فاستولوا عليها حقباً طوالاً، ثم. . .
قالت نفسي: قد انتكستَ في العصبَّية فانفسح لك مجال القول وانطلق لسانك تُشيد بالعرب ومجد العرب. ألم أقل إنك عصبي؟ ألم أقل إنك عربيٌ مسلم متعصب؟
قلت: إن هذا الأمر عجب! إن ذكرت تاريخ قومي كان هذا عصبية، وإن رويت تاريخ غيرهم كانت إنسانية؟ أليس قومي من البشر فتاريخهم للبشر تاريخ؟
لقد جاوزنا البارحة جزيرة كريد التي سماها العرب إقريطش وكان لهم دُول وغِيَر. أفتلزمني الإنسانية أن أذكر كل من ملكوا هذه الجزيرة إلا العرب؟ ليست العصبية أن أذكر قومي وأشيد بمآثرهم، وليست الإنسانية أن أنساهم وأغمط حقهم وأعق تاريخهم؛ ولكن العصبية أن أتزيد في القول فأحمدهم بما لم يفعلوا، أو أتحيف غير قومي فأبخسهم ما فعلوا. فأما أن أذكر الحق وأروي الصدق، فحقٌّ على الناس جميعاً وهو لقومي أحق
هاهو ذا مضيق مسٌينا قد اقترب، والسواحل عن يميننا وشمالنا تشتعل بالأضواء المتلألئة، والمصابيح المنشورة بين السواحل والجبال. وهو، ونور الحق، وجمال الشعر، منظر رائع جميل في هذا الليل السياحي، والباخرة تشق طريقها متمهلة تأخذ ذات اليمين مرة وذات الشمال أخرى، تتحرى سبيلها بين شعاب البحر وصخوره. والمنارات تومِض وتخبو، تهدي السفينة طريق النجاة وتحذّرها مواطن العطب. لشدَّ ما تعجبني وتملأ نفسي غبطة