هذه الحضارة الوهاجة، والمدنية المضيئة! وشد ما أرجو الخير للناس جميعاً في ضوء هذه الحضارة! ولشدَّ ما يؤلمني ويملأ نفسي أسفاً أن أذكر أن في طيّ هذه الحضارة دمارها وأن تحت هذه الأنوار نارها، وأن هذه المياه وهذه السواحل وما وراءها يبيّت للحضارة شرَّا، ويريد بها أمراً نُكرا. ليت الناس يدركون السلام، ويعرفون الوئام، فلا يبنوا ليهدموا، ويعمروا ليدمروا. . .
إن السفينة تتجه شطر الشمال الآن. وهاهو القطب أمامنا وبنات نعش الكبرى قد دارت إلى الشمال وهوت نحو الأفق. ونحن الآن في المضيق. فهذه إيطاليا إلى اليمين، وهذه صقلية إلى اليسار. أأستطيع أن أمر هنا، إنساناً أو شيطاناً، فلا أذكر قومي في صقلية وسواحل أوربا وأفريقية، وما كان لهم من مجد مؤثل، وعزة قعساء، ثم أذكر ما يحل اليوم بساحتهم في أرجاء العالم من العذاب والخراب؟ أأذكر طرابلس أم أذكر المغرب أم أذكر فلسطين؟
. . . إن قلبي يكاد يوحي إلى لساني لعن هذه الحضارة. إني أتخيل الآن ذلك الفقيه أسد بن الفرات يقود جيش الأغالبة على لجج البحر لفتح صقلية، وهو يحمل قلباً أبر بالإنسانية والحضارة من قلوب أبناء عصرنا
قالت نفسي: لا تغضب إذا ذكرتك أن العصبية جاوزت بك الحق. أترى أسد بن الفرات وأساطيله شيئاً مذكوراً بجانب هذه المدنية الخلاقة التي تذكرك بها هذه السفينة الكبيرة تمخر عباب البحر في ظلمات الليل لا تبالي أهاج البحر أم سكن؟
قلت: لم أتكلم عن الصناعة والعلم ولكن ذكرت الرحمة والبر بالناس، والعمل لإسعادهم والإخلاص في إنصافهم، والدعوة إلى المؤاخاة بينهم والتواضع للحق والبعد من الزهو والإعجاب والفخر والكبرياء، ومراقبة الله في خلقه
وبعد فقد جاوزنا المضيق وتركنا صقلية كما ترك الزمان تاريخ العرب. فأريحيني من هذا الجدال، وانظري إلى السماء والماء، واستشعري شيئاً من الصفاء والسلام
وبعد فيا بنيتي العزيزة! قد أخذت القلم لأصف لك بعض ما رأيت بعد أن فارقنا السفينة، وأحدثك عن سفري من جنوة إلى لوسرن في سويسرا، ولكن سبق إلي حديث البحر وتبعه القلم، ولست أجد الآن فراغا لاطالة الحديث. فحسبك هذه النبذة في هذه الرسالة. وعسى أن أجد عما قليل فراغا للرسالة الآتية. وأحسبها ستكون رسالة أختك مي لا رسالتك. والله