في نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين أثارت طائفة من فلاسفة الغرب وعلمائه وكتابه، حملة شعواء ظالمة على التاريخ كعلم من العلوم الإنسانية، وبلغت تلك الحملة أشدها حين طغت موجة العلوم العلمية على العلوم النظرية، وجرف تيار الروح المادي كافة المثل العليا التي تغنت بها الإنسانية طوال السنين أو كاد، وأسرف بعض الفلاسفة في توجيه النقد فنادى بأن التاريخ لا يعدو أن يكون (مجموعة أكاذيب) لا ينبغي للشعوب أن تشغل أذهانها بها، ولا يحل في شريعة التربية الوطنية أن نسمم عقول النشء بحشوها في ثناياها؛ وأبى بعض أولئك الفلاسفة أن يسمو بالتاريخ إلى مرتبة العلم الجدير باسم علم، إذ لم تكن له المبادئ الثابتة والمقاييس والضوابط والحقائق التي تنطوي عليها علوم الرياضة والهندسة والفلك وما إليها من العلوم المضبوطة، وإن من ضياع الوقت الضرب في مجاهل التاريخ بدل الإلمام بالكيمياء
والميكانيكا والجيولوجيا والبيلوجيا والفزيولوجيا وغيرها من العلوم العلمية. وذهب بعضهم إلى حد القول بأن الذي جنى على الحضارة الإنسانية شر الجنايات إنما هو التعلق بالخيالات، واطراح الحقائق العلمية ظهرياً ونعي أحدهم على التربية في عصره العناية بالنظريات، والتنكر للحقائق العملية إلى حد أن يجهل الناشئ جهلاً مطبقاً أعضاء جسمه، على حين أنه يلقى عن ظهر غيب تاريخ ميلاد الملوك ووفياتهم وحروبهم، ولو لم يكن لأولئك الملوك أثر بارز في التاريخ، ولو لم تغير معاركهم الحربية مجراه في كثير أو قليل، كأنما التاريخ بات ثبتاً بمواليد الملوك ووفياتهم، وقائمة حمراء بالمعارك الدموية! وعلى الجملة فقد قام أولئك العلماء ينشدون (الإنسان الآلي) ويضلون عن الإنسان المركب من جسم وروح وعقل!
كان يمكن أن ترجح وجهة نظر دُعاة المذهب المادي لو أن التربية إنما تعني بالجسم والعقل دون الروح، ولكن التربية الحقة في ضوء العلوم النفسية، وعلى هدى التجارب التي تمليها نهضات الشعوب، ينبغي لها أن تعني بالجسم ثم بالروح ثم بالعقل، بحيث يحصل التوازن فلا تطغى قوة على أخرى والإنسان تسوقه العاطفة أكثر مما يسوقه العقل.