للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والعواطف الملتهبة الجياشة التي تبلغ حرارة اليقين وغليان الإيمان، وتترفع إلى الرضا بالاستشهاد في سبيل ما يعتقد المجاهدون أنه الحق، هي التي غيرت وتغير وجه التاريخ، لا برودة العقل والبحث العلمي المجرد. والأمم في جريها وراء تحقيق المثل العليا تشعر في أعماق نفسها بقوة تحفزها للنهضة والتقدم إلى الأمام. وما كان لحفنة من العرب أن يخرجوا من جزيرتهم الجرداء القاحلة غير مزودين بعدة أو عدد، أن يهدموا إمبراطوريتي الرومان والفرس ويقيموا على أنقاضهما الإمبراطورية العربية الضخمة، وينشئوا الحضارة الإسلامية، وهي أبقى على الزمن الباقي من الزمن، لولا الإيمان الذي يغمر قلوبهم، واليقين الذي يدفعهم إلى تحقيق مثلهم الأعلى

وفي الحروب أفلا تراهم يتحدثون عن الروح المعنوية، وأنها هي التي ترجح كفة النصر. ثم ألا ترى أن الدعاية القوية هي التي تقود خطوات الشعوب. ولعله لا يكون من الإسراف أن نحمل طائفة من مؤرخي الألمان وفلاسفتهم وعلمائهم النصيب الأكبر في تبعات الدماء التي سالت والأرواح التي أزهقت في حربين لم تكد تخبو نار أحدهما حتى تأججت نيران الأخرى أشد ما تكون ضراماً في فترة واحد وعشرين عاماً، ولا يعلم إلا الله ماذا تلتهم ومتى تخمد! ومن ذا يستطيع أن ينكر أن تريتشكه ونيتشه يساهمان بنصيب كبير في الروح الحربية الروسية، وأن عقول وأقلام راتينا وكيزرلنج وتوماس مان وشبنجلر ومولر فإن دن بروك وفيدر وروزنبرح وغيرهم من غلاة المذاهب الفلسفية المتطرفة هي التي صاغت ألمانيا النازية التي تتحدى اليوم العالم بمن فيه وما فيه! لقد نفخ هؤلاء وأولئك في روح الألمان أنهم من طينة كثير من الأمم، وأنهم خلقوا للتسلط والسيادة، وأن الحرب إنما هي صدام بين إراديتين، وإنما يعقد النصر بلواء الأقوى فيهما وأنه لابد لألمانيا من أن تصفي حسابها مع الغرب، أن لم يكن اليوم فغداً، ليتسع لها المجال الحيوي، ولتأخذ مكانها في الشمس، ولتأخذ مكانها من سيادة العالم، وتطالع الدنيا بنظام جديد ينهض على القوة والرقي بدل النظام الذي كان يقوم على الضعف والانحلال!

إنما تنكر بعض الفلاسفة والعلماء للتاريخ وأكبروا أن يرتفعوا به إلى مرتبة العلم، لأنه كان قائماً على مجرد سرد الوقائع وذكر الأرقام، وليس هذا من التاريخ في شيء. فإذا اصطبغ بصبغة الأدب فهو أدنى إلى القصص التاريخي منه إلى التاريخ الحق. إنما المؤرخ الجدير

<<  <  ج:
ص:  >  >>