في ليلة السبت ٥ يناير عام ١٩٥٢ سهرت السويس حتى الصباح، وكذلك سهرت القاهرة. . كانت السويس البائسة تضج بالألم وهي تستمع لصوت الرصاص وكانت القاهرة السعيدة تفيض باللذة وهي تستمع لصوت أم كلثوم! كان هناك مأتم وكان هناك عرس. كانت هناك دماء وكان هناك غناء. . السويس والقاهرة إن لم تكن تعلم قطعتان أصليتان من أرض مصر، مصر التي يقال عنها إنها تنظر إلى المأساة بعين واحدة، وتتلقى أنباءها بشعور واحد!
في تلك الليلة، ليلة السبت ٥ يناير عام ١٩٥٢، كان المجاهدون من أبناء السويس وحدهم في المعركة، يواجهون قوى الشر والغدر والطغيان. . دماؤهم فوق أسنة الحراب، وأجسادهم تحت أقدام اللصوص، وعيونهم أبدا إلى الأفق البعيد! أما القاهرة فقد تلقت الأنباء المفجعة في الساعة الثامنة والنصف، ومع ذلك فقد بدت في الساعة التاسعة والنصف وكأنها لم تسمع شيئا ولم تشعر بشيء. . وأعذروها فقد كانت في غمرة الطرب ونشوة الأنغام، كانت تنصت لأم كلثوم وتصفق لأم كلثوم!
ماذا يقول الناس عن هذه العاصمة السعيدة المرحة التي لا تعرف الحياء؟ العاصمة التي لا يضيرها أن تطرب وهناك من يئن، وأن تسعد وهناك من يشقى، وأن تضحك وهناك من يبكي، وأن تحيا وهناك من يموت؟!
شهيد واحد من شهدائنا تستقر في رأسه مائة رصاصة. . ترى هل استحالت الرؤوس في نظر الأنذال إلى حصون وقلاع؟ إن تلك الرصاصات المائة لكفيلة بأن تشعل في النفوس نار الأسى على الشهيد الذاهب، ونار الحقد على العدو الظالم، ونار التطلع إلى انتقام سريع. . إنها لكفيلة بأن تقض المضاجع، وأن تؤرق الجفون، وأن تجعلنا ساهرين حتى الصباح! ولقد فعلنا ذلك منذ أيام. . غنت كوكب الشرق، وصفق السكارى والمعربدون، واشتركت في المهزلة محطة الإذاعة الحكومية، تلك المحطة التي لا يشرف عليها غير أصحاب الثقافة القاصرة والشعور البليد!
ترى هل قدر لمدن القنال أن تعيش وحدها في الجحيم، وأن تحمل وحدها العبء الفادح،