وأن تخوض وحدها غمار المعركة، دون أن يجد أهلها من يشاركهم في الشعور إن لم يقاسمهم المصير؟ لقد كنت أنتظر حين تجرح بور سعيد أن تضمد جراحها الإسكندرية، وحين تبكي السويس أن تكفكف دموعها القاهرة، وأن تؤلف بين نفوسنا وحدة الدم وأن تربط بين قلوبنا صرخة الوطن، في هذا الوقت الذي نوجه فيه سطو اللصوص على كل ما نملك من رصيد الشرف والكرامة. . كنت أنتظر هذا كله وما هو أكثر منه، ولكن القاهرة الماجنة قد نقلتني من عالم الخيال الجميل إلى عالم الواقع الدميم، حين أرسلت ضحكاتها الصاخبة عبر الفضاء لتحبى بها أنين الضحايا على ضفاف القنال!
إن الدم ليفور في عروقي وأنا أبحث عن الرجل الذي يملك سوط الجلاد فلا أجده، الرجل الذي يلهب ظهور اللاهين في ساعة الجد، والعابثين في وقت الشدة، والهازلين ورحى المعركة تدور. . أين هذا الرجل ليرد أصحاب الغفلة إلى الوعي، وأين سوطه ليعلم أصحاب الغفلة إلى الوعي، وأين سوطه ليعلم أصحاب المجون معنى الوقار؟! ما أشد حاجتنا إلى هذا الرجل ما دام الذوق قد تحجر، وما دام الحس قد تلبد، وما دام الضمير قد مات!!
لو وجد هذا الرجل لما امتلأت القهوات بالفارغين، ولما ازدحمت الشوارع بالمتسكعين، ولما ضاقت الأندية على سعتها بالرقعاء من لاعبي القمار. . لو وجد هذا الرجل لساق هؤلاء جميعا إلى هناك إلى تلك البقعة المجاهدة ليتلقوا في رحابها الدروس، دروس العزة والبذل والتضحية وإنكار الذات! لو وجد هذا الرجل لساقهم سوق العبيد ليفهموا معنى الحرية، ولأخذهم أخذ الأذلاء ليدركوا شرف الكرامة، ولأيقظهم بصوت القوى القاهر من هذا السبات العميق!!
إنهم في هذه المحنة القاسية وفي هذه اللحظة الحاسمة، محتاجون حقا إلى من يقنعهم بأن زمن اللهو قد انقضى وبأن وقت الهزل قد فات، ولن يقنعهم على التحقيق غير شيء واحد هو سوط الجلاد. . وما أشد افتقارنا إليه في مثل هذه الأيام!