هذه الحكمة اليونانية القائلة (أعرف نفسك بنفسك) هي لعمري طيش شديد وجهالة كبرى!! فلن نستطيع أبداً أن نعرف نفوسنا ولا نفوس غيرنا من البشر. وأنه لينبغي التيقن من ذلك والأيمان به، فأن خلق العالم أدنى صحة وأقل استحالة وأكثر إمكاناً من فهمه وعرفانه. لقد شك بها (هجل) بعض الشك، ومن القريب المحتمل أن يخدمنا العقل في يوم من الأيام بإبداع كون جديد، فأما الكشف عن مفهوم هذا الكون وتبين كنهه فذلك ما لا سبيل إليه، ولا قدره لأحد عليه. والأولى بنا أن نسئ استعمال العقل ونمعن في الجور وسوء التصرف به، بدلاً من أن نتخذه آلة لتحري الصواب ومعرفة الحقيقة. وحتى استخدامه للحكم والقضاء كما يتطلب العدل ويرتضيه الناس فأنه ضعيف ضئيل لا يجدي نفعاً كبيراً، وإنما يصلح العقل للتسلي بتلك الملاهي، وهي أكثر تعقيداً وغموضاً من الشطرنج، المسماة ميتافيزيك. علم الأخلاق. علم الجمال، ولعله جدير بالرضى والإعجاب حين يقتطف من هنا وهنالك قليلاً من النتوء أو بعضاً من الوضوح في الأشياء، ثم يتمتع بألوانها وأصباغها من غير أن يفسد تلك اللذة البريئة الخالصة بالتفكير الكلي الشاملوالاندفاع وراء الحكم والقضاء.
أدب الحياة
مادام معنى الجمال لا يدرك مستقلاً عن حدود الزمان والمكان فأني لا أشرع في استساغة آثار الفكر والتلذذ بمنتوجات العقل إلا حين أكشف عن وجه اتصالها بالحياة ولصوقها بها، وهذه الصلة هي التي تجذبني إليها وتأسرني عن قراءتها. فجرار هيارليك الضخمة حببت إلي (الإلياذة) كثيراً، وإذا كنت أتذوق (المهزلة الإلهية) وأسيغ حلاوتها جيداً، فلأني أعرف حياة فلورنسا، وأدرك الحال التي كانت عليها هذه المدينة في القرن الثالث عشر. أنا لست أفتش في الفنان إلا عن صورة الإنسان! وما عسى أن تكون القصيدة الجميلة الرائعة غير البقية الباقية من جثمان الشاعر؟ إليك هذا القول العميق يرسله جيتيه (الآثار التي تخلد دون غيرها هي آثار الظروف والأحوال) لكن الآثار الفنية لا يمكن أن تكون إلا آثار الظروف