للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والأحوال لأنها إنما ترتبط جميعها بالمكان والزمان اللذين أبدعاها وكونا عناصرها. ولسنا نستطيع تفهمها ولا محبتها إذا كنا نجهل الزمن الذي أنشئت فيه والمكان والشروط الاجتماعية التي أحاطت تكوينها.

الحق إن البلاهة المتعاظمة الصلفة إنما تبرز في القول بالإنتاجالفني المستقل. فالثمن الذي يدفع غالياُ للمؤلفات الرفيعة العالية إنما هو ثمن العلاقات التي تربطها بالحياة. وأنا كلما تبينت هذه العلاقات وكشفت قوتها أشتد هيامي بالأثر الفني أستسيغه وأستمرئه.

القمار

يلعب المقامرون كما يحب العشاق ويسكر الشراب مرغمين مجبرين. يلينون لقوة رائعة لا تقاوم، ويستكينون للنوازع الجامحة العمياء! وفي الناس من وقف نفسه على القمار ونذرها للعب، على نحو من يقف نفسه على الهوى وينذرها للتصابي والغرام. ولست أدري الذي ابتدع قصة ذينك الملاحين المقامرين تذيبهما نيران اللهو، كاد الملاحان يغرقان ثم طوحا بجسميهما وسط المغامرات الخطيرة، ولم ينجهم من الموت المحتوم غير الطفرة إلى ظهر حوت، فما لبثا أن انتزعا من الجيوب الزهر والفنجان، ثم راحا يلعبان!

هذه القصة أصح من الحقيقة وأشد منها ثبوتاً، وكل مقامر مدنف إنما هو ملاح على طراز من ذكرنا. والواقع إن في القمار معنى من معاني الرهبة، يهز أعصاب الشجاع، ويثير في نفسه ألوان الاضطراب والقلق. فليس اختبار الحظ غبطة يسيرة معتدلة، وليس ارتشاف حياة طويلة عريضة ذات أشهر وسنين مليئة بالخوف والرجاء، بالألم والأمل - ليس ارتشافها في هنيهة من الزمن لذة ضعيفة هامدة لا تثمل، أذكر إني كنت دون العاشرة من عمري حين قرأ علينا المسيو غريبيني، أستاذ الصف التاسع، حديث الإنسان والجنية. وبالرغم من طول البعاد وتقادم العهد، فأني ما أزال أعيه وأتمثله كأنما هو حديث الأمس القريب: إن جنية ماكرة دفعت إلى طفل صغير خيطاً طويلاُ قد لف بانتظام حول نفسه ثم قالت له (هذا خيط عمرك فألمسه وحين تريد أن يمضي الزمن لتستشرف له وتحيا فيه فأشدد الخيط فأن الأيام والليالي سوف تمر أمام ناظريك وتكر متتابعة في إسراع أو بطء حسبما تشد الخيط في قوة أو فتور. وما دمت لا تجذب هذا الخيط فإنك تبقى من الوجود في الساعة التي أنت فيها) فأخذ الطفل الخيط الملفوف فجره قبل كل شئ ليفلت من طور

<<  <  ج:
ص:  >  >>