بالرغم من الصيحات المتتابعة من العلماء القدامى والمحدثين بأن العلل النحوية لا غناء فيها ولا جدوى منها؛ وبالرغم من الشكوى الأليمة المرة من المتعلمين والمعلمين على السواء من تعقيد النحو العربي وصعوبته وكثرة الفضول فيه؛ بالرغم من ذلك كله فلا يزال بعض العلماء ينادي بأن النحو العربي خلق مبرأ من كل عيب وأن العلل النحوية بالذات - في هذه الكتب هي الذهب الأبريز. ولا يزال المشرفون على التعليم في المعاهد العلمية التي تدرس تلك الكتب القديمة بكل ما فيها. وواجب الطلاب والمعلمين أن يصبروا وأن يطيلوا الصبر على تجرع هذه الأدوية المريرة فإنها الشفاء الوحيد من داء الجهل. ويعلم الله أنها تزيد الداء شدة وبأساً، فكم في هذا النحو من فضول. هذه الأمثلة التافهة التي تحدثنا عنها في حديثنا الماضي وهذه الخلافات فيما لا يتصل بسلامة النطق كاختلافهم في إعراب الأسماء الخمسة هل هو من مكانين أو من مكان واحد، وكاختلافهم في إعراب المثنى وجمع المذكر السالم: هل الألف والواو والياء إعراب أو حروف إعراب أو دالة على الإعراب أو انقلابهما هو الإعراب؟ وهكذا من مثل هذه الخلافات التي لا يقصد منها أكثر من إطالة الجدل والتمرين على صناعة الأدلة؛ وهذه الخلافات ستكون موضوع حديثنا المقبل - إن شاء الله - وهذه العلل النحوية التي نحن بصدد الحديث عنها الآن، ما قيمتها؟ ما جدواها على العلم؟ ما مدى صحتها في نظر العقل والمنطق؟ هذه أسئلة يجيب عليها بعض علمائنا السابقين، يجيبون عليها في صراحة وصرامة بأنها تكثير في مواد الكتب ولا غير؛ ولكن بعض المؤلفين من علمائنا يؤمنون بأنها الزبدة والخلاصة ومدرسة النحو المتعيشون من تدريسه يقسمون بالطلاق والعتاق وكل محرجة من الأيمان أنها الركن في دراسة النحو، وأن الطالب إذا لم يحسنها فهو ليس بطالب! وكم لقينا من أساتذتنا في الامتحانات الشفوية من مشقة وإعنات في سبيل هذه العلل وتخريجها وتطبيقها، وكم لقي منا تلامذتنا فنحن نتفلسف أمامهم لنظهر قدرتنا وضعفهم: ونحن إذا عجزنا عن سؤال خالص سليم أغربنا عليهم بالسؤال عن العلة والقياس والدليل، وبذلك نرضى عن أنفسنا حين نرى تخبطهم أمامنا وضربهم في كل مذهب من القول والرأي.