عرفنا من الكلمة السالفة أن أبا العلاء كتب رسالته يرد بها على ابن القارح وهو طرب أيما طرب لأنه وجد فيه. . . عنقاءه والخل الوفي! وعرفنا أن ابن القارح لم يكن يقل زندقة وإلحاداً عن أبي العلاء لأنه استهزأ بالأبرار والأطهار الذين ورد ذكرهم في سورة الدهر، ولأنه عاب عليهم خوفهم يوماً كان شره مستطيراً. . . يوماً عبوساً قمطريراً. . . ولو كانوا مثله. . . مثل ابن القارح. . . لما نذروا، ولما وفوا. . . ولما خافوا شر ذلك اليوم
وعرفنا كذلك أن ابن القارح لم يكن صادقاً حقاً في (تغيظه على هؤلاء الزنادقة والملحدين) الذين حشدهم وجمع أقوالهم في رسالته من غير ما مقتض لحالها. . . اللهم إلا أنه كان يخاطب أبا العلاء بلغة العصر الذي كانت تهدر فيه الدماء لمجرد الريبة تحوم حول الرجل في دينه، فاضطر أن يلغز هذا الإلغاز الذي لا يجوز مظهره على ذكاء أبي العلاء. . .
ونريد اليوم أن نعرف السبب الذ ي حدا بدانتي إلى كتابة كوميديته؛ فلا نرى بأساً من أن نضع بين يدي القارئ ترجمة سريعة لهذا الرجل الذي كان يعيش ملء عصره، ويساهم بقلبه وعقله ويده في شؤون إيطاليا عامة وفلورنسا خاصة
ولد دانتي في مايو ١٢٦٥، أي بعد أن وضعت الحرب الصليبية أوزارها (١٠٩٦ - ١٢٤٤)، وفي زمان كان فيه اختلاط الشرق بالغرب شاملاً كل شيء ولا سيما الثقافة، وكان الغرب يرشف من مدنية الشرق ما يشاء عن طريق الشام ومصر وصقلية وتونس والأندلس. واختلف المؤرخون في منشأ أسرة دانتي. . . فبعضهم يقول إنها من رومه، وبعضهم يقول إنها من فرّارا، والبعض يقول إنها من بارما، أو من فيرونا؛ على انهم متفقون على أن الفتى نشأ في فلورنسا وفيها، وأنه تثقف على أشهر علمائها في ذلك الزمن (برونتو لاتيني)
وقد كان أبوه أليجييرو رجلاً فقيراً من وسط برجوازي مكروه من الحزب الديمقراطي، وقد ماتت أمه مونّا بللا بعد أن وضعته بزمن قصير. وفي التاسعة من عمره رأى فتاته وحبيبته بياتريس، فنفثت في قلبه السحر، وحلت عن لسانه عقدة الشعر، وجعلت حياته دراما رومانتيكية بارعة من الحب الأفلاطوني الحزين. . . وترعرع دانتي. . . ونظم