كانت أسبانيا قبل بضعة أعوام تحيا حياة عادية، وتتمتع في ظل الملوكية بنوع من الاستقرار والسكينة، لا يزعجها سوى بعض الأزمات الداخلية والاضطرابات المحلية. ولكن أسبانيا شاءت منذ بضعة أعوام أن تحطم نير الملوكية، وأن تقيم حكومة جمهورية شعبية؛ وكانت الملوكية الأسبانية تحتضر في الواقع قبل ذلك بأعوام، في ظل حكومة الطغيان العسكري التي فرضها الجنرال بريمو دي رفييرا على أسبانيا منذ حوادث مراكش الشهيرة؛ وكانت أسبانيا تعاني مرارة هذا الطغيان المرهق ساخطة متربصة؛ فلما توفي الجنرال دي رفييرا اضمحل نير العسكرية؛ وحاولت الملوكية أن تستعيد سلطانها القديم، ولكن الشعب الأسباني كان قد سئم حياة الذلة في ظل النظم المطلقة، فانتهز فرصة الانتخابات العامة التي أجريت في ربيع سنة ١٩٣١ وأبدى رغبته جلية في مناصرة الجبهة الجمهورية، وشعرت الملوكية أنه لم يبق لها أمل في البقاء، فآثرت أن تنسحب في سكينة، وأن تترك الميدان حراً للشعب الذي لفظها وأباها.
وهكذا قامت الجمهورية الأسبانية نتيجة ثورة سليمة لم يشبها سيل الدماء، ولا ويلات الحرب الأهلية؛ واعتقد الشعب الأسباني، واعتقد العالم أن أسبانيا سوف تستقبل في ظل الجمهورية حياة جديدة من الحرية والسكينة والرخاء.
ولكن الجمهورية الأسبانية ولدت ضعيفة مفككة العرى، ولم يستطع زعماؤها منذ البداية أن يجمعوا كلمتها أو يوحدوا قيادتها ضد القوى الرجعية التي كانت تتربص بها؛ ومنذ البداية انحدرت الأحزاب والقوى الجمهورية إلى غمر الخصومات والمعارك المحلية؛ ونمت الحركة الاشتراكية في ظل النظام الجديد بسرعة، واستطاعت ولاية قطلونية مهد الاشتراكية الأسبانية أن تملي إرادتها على حكومة مدريد، وأن تفوز باستقلالها المحلي؛ وتوالت الأزمات الداخلية والاعتصابات المحلية، وزادت الأزمة الاقتصادية في حدة هذه الاضطرابات وخطرها على الجمهورية الفتية؛ وألفت الجمهورية نفسها عاجزة عن ضبط القوى التي أثارتها، وتعاقبت الحكومات بسرعة، وسارت البلاد مسرعة إلى الفوضى؛ ولم تدرك الأحزاب الجمهورية أنها بهذه المعارك المستمرة تمهد لفوز القوى الرجعية التي