من هنا، يا أستاذ من هنا! وأذن لي في أن أسعى بين يديك فلا بد لك من دليل. ثم سعت أمامه رشيقة أنيقة في طريق طويلة جميلة، يحفّها من جانبيها الشجر والزهر، وفيها قليل من ضيق، وشيء من التواء. وقد استمتعت الأشجار القائمة على جانبيها بشيء من الحرية عظيم لا يستمتع به الناس في هذه الأيام، فمدت أغصانها كما شاءت في غير نظام، حتى اختلط بعضها ببعض والتف بعضها ببعض. وجعلت الآنسة تسعى أمامي رشيقة رفيقة، وتجدُّ في التفريق بين هذه الأغصان الملتفّة المتعانقة لتشقّ طريقها وطريق صاحبها، وكأنها كانت تجد في ذلك شيئاً من العسر اللذيذ، فكانت تحاول أن تعتذر بهذه الجُمل السهلة اليسيرة الفارغة التي تقال في مثل هذه الحال: ليست الطريق سهلة هنا، يجب أن تحتاط، وما رأيك في هذه الأغصان التي تريد أن تداعبنا وإن لم نطلب إليها المداعبة؟ حقاً لقد أسرفنا في إهمال هذه الأشجار فأسرفت في الانتفاع بحريتها. وكان صاحبها يجيب على هذه الجمل بضحك فارغ لا يدلُّ على شيء إلا على أنه لم يكن يجد ما يقول. لأنه لم يكن يسمع لهذه الجمل التي تلقى إلا بإحدى أذنيه. وقد كانت نفسه كلها مفتونة بهذه الطبيعة الحرة المطلقة، وبما بينها وبين حياة الناس في هذه الأيام من تناقض واختلاف. ولعله كان يُعجبْ بهذا القوام المعتدل الذي كان يسعى أمامه في رفق، ويجاهد هذه الأغصان في لباقة وظرف، ولكنه كان يخفي حتى على نفسه هذا الإعجاب الذي لو أحسّتْه صاحبته لضاقت به ضيقاً شديداً. حتى إذا طال سعيهما في هذه الطريق الخفيّة الملتوية انتهيا إلى رقعة واسعة رحبة من الأرض، وقد فرشت ببساط ناعم كثيف من العشب، وانتثرت فيها قطع بديعة من الزهر، قد نسِّقت أحسن تنسيق وأجمله، وقامت في وسطها مائدة قد نثرت عليها أوراق الورد في كثرة تلفت النظر. فلما انتهيا إلى هذا المكان الهادئ الباسم الجميل، أرسلت من صدرها زفرة ضاحكة وهي تقول: لقد انتهى الجهد وآن للمتعب أن يستريح، اجلس يا سيدي فهنا يحسن الحديث فيما أظن. قال: بل هنا يحسن الاستماع. قالت: الاستماع لمن! الاستماع لماذا؟ قال: الاستماع لك والاستماع لهذا الصمت الناطق من حولنا.