قالت: دع عنك الاستماع لي فما أحسب إلا أنك قد سئمته، أو ستسأمه، وما أحسب إلا أنك قد زهدت فيه أو ستزهد فيه حين يستأنف بيننا الحوار، فيستأنف بيننا الحوار من غير شك، ولكن حدِّثني عن الاستماع للصمت كيف يكون؟ وحدثني عن الصمت كيف ينطق أو كيف يصدر عنه الكلام؟ وكأنا في أثناء هذا الحديث قد أخذا مكانهما إلى المائدة وجهاً لوجه. وكان صاحبها حائر النظر بعض الشيء يردده بين السماء والأرض، ويردده بين قطع الزهر المنتثرة من حوله وبين آنية الزهر القائمة على المائدة، وبين أوراق الورد المنثورة بين يديه. قالت: ألست قد زعمت لي منذ أيام أنك تحب لثم الورد وشم القرنفل فهذا هو الورد تستطيع أن تمتع نفسك به كيف أحببت، أنظر إليه مختلفاً ألوانه مستوياً على سوقه، بعضه قد هام بالحياة والضوء فانبسط لهما انبساطاً وأخذ يلتهمهما التهاما، وبعضه قد أحبهما، ولكنه يسمو إليهما في استحياء فيتفتح لهما قليلا قليلا، وبعضه يحسّهما وينعم بهما ولكنه لا يكاد يشعر بهذا الحس وهذا النعيم، فهو أكمام لم تتفتح بعد. وانظر إليه أسيراً في هذه الآنية لم يبق فيه من الحياة إلا ذماء يسير يمسكه عليه هذا الماء الذي تحتويه الآنية. وانظر إليه صريعاً قد فقد الحياة وتفرقت أوراقه، وانتثرت بين يديك غضة، ولكنها تسرع إلى الذبول أو يسرع إليها الذبول.
وهذه زهرات من قرنفل قد هُيِّئتْ لك وفرقت في آنية الورد تبعث إليك عرفها هادئا قويا. فماذا تريد فوق هذا؟ قال: لا أريد إلا أن تمضي في هذا الحديث الذي أخذت فيه منذ الآن، فإني لا أعرف ترجمة عن هذا الصمت الذي كنت أريد أن اسمع له أبْلغْ من هذه الألفاظ التي ينثرها حديثك العذب. قالت: وما زلت مشغوفاً بالعبث لا تفرغ منه إلا لتعود إليه. لقد أنبأتني عن حبك للورد والقرنفل، فها أنت ذا بين الورد والقرنفل، فحدثني أنت بحديثهما فأنت أعلم به وأقدر عليه مني. قال: ما أعرف يا آنسة أن لهما حديثاً يحكى، فان كان لهما حديث فما أعرف أن أحداًيستطيع أن يحكيه غيرهما فاستمعي لهما إن شئت، وغيركِ فاسمعيني حديثهما إن شيءتِ، فإنما أنت زهرة بين الزهر.
قالت: كأنك تريد أن تحفظني. فاعلم أنك لن تبلغ ما تريد، ولن تثير حفيظتي، ولن تصرفني عما أزمعتُ من أن أسمع منك حديث الورد والقرنفل. فلا تلتوِ به فلن ينفعك الالتواء. وأقبلت خادم تسعى وهي تحمل صينية عليها إبريق وأكواب. فوضعت إبريقها،