وصفّت أكوابها، وانصرفت متثاقلة. وكانت عجوزاً شمطاء قد انحنت قامتها، وأسرف الذبول في وجهها، فلم تكد تبقى فيه قطرة من حياة. وكان منظرها في هذا الفناء مناقضاً أشد المناقضة لما يحيط بها من هذه الحياة القوية، فهمّ أن يتكلّم، ولكن صاحبته قالت وقد فهمت عنه ما كان يريد: ومع ذلك فهي أنشط منك للحياة، وأحرص منك على نعيمها ولذّاتها، لا يفوتها موسم، ولا يفلت منها عيد، ولا تقصَّر عن فرصة إن سنحت لها لتشترك فيما يراه الناس سعادة ونعيماً أو لهواً وصفواً. وهي بعد هذا كله صماء مغرقة في الصمم تستطيع أن تتحدث إليها وتصيح بها فلن تسمع لك ولن تفهم عنك. وهي بعد هذا وذاك قد نيَّفت على الستين، ولكن هات حديث الورد والقرنفل. ثم عمدت إلى الإبريق فملأت منه قدحين وهي تقول: لقد أنسيت، فهذا يوم الورد تستطيع أن تراه وأن تشمه، وأن تلمسه، وأن تلثمه، وأن تشربه أيضاً. فليس في هذا القدح بين يديك إلا ماء الورد.
والآن تحدث، فقد يحسن الحديث. قال: أيّ حديث يحسن في مصر وما أعرف بلداً أفضح لسر الحديث، وأكلف بنشره وإذاعته من هذا البلد. أتذكرين؟ قالت: وكيف لا أذكر؟ إنك تشير إلى مجلسنا ذاك على شاطئ النيل، وإلى حديثنا هناك عن شيوخ الأدب وشبابه. فقد نشر هذا الحديث في الرسالة. قال: ومع ذلك فلم يكن في مجلسنا ولا قريباً منه أحد. قالت: ولست أنت قد ألقيته إلى من أذاعه، هذا شيء لا شك فيه. قال: ولا أنت، هذا شيء لم يخطر لي. قالت: وإذن؟ قال: وإذن فهو طائر من هذه الطير التي تؤوي إلى الأغصان إذا كان الأصيل ودنا الليل فتسمع حديث الناس وتعيه، وتلقيه في روع الكتّاب والشعراء. أو هو جنيُّ من هذه الجن التي تألف شاطئ النيل فتقيم في ظل الأشجار التي تقوم عليه، أو تسكن تحت هذا الماء الذي يجري فيه، وتسمع أحاديث الناس والأشياء وتعيها فتنقلها إلى الكتاب والشعراء وتنطق بها ألسنتهم، وتجري بها أقلامهم. ولهذا لست مسرفاً في حب الحديث، وفي حب الحديث عن هؤلاء الذين لا يحبون أن يتحدث الناس عنهم إلا بما يريدون لا بما يريد الناس. قالت: من الظواهر التي لا تحتاج ملاحظتها إلى دقة ولا إلى ذكاء أن مصر مفشية للسر، قليلة الحرص على الكتمان. أنظر إلى بيئاتها المختلفة، فلن ترى لها سراً. أحاديث ساستها وقادتها وأدبائها وأصحاب الأعمال فيها ذائعة شائعة يعرفها الناس جميعاً ويتناقلها الناس جميعاً. ومصدر هذا في أكبر الظن أن طبيعة مصر نفسها