صافية واضحة، مسرفة في الصفاء والوضوح، سماؤها صحو دائماً، لا يتكاثف فيها الغمام، ولا يتراكم فيها السحاب، وأرضها مبسوطة هينة لا ترتفع فيها الجبال الشاهقة، ولا تنتثر فيها الكهوف والأغوار، ولا تنبت فيها الغابات الكثيفة الملتفّة، فأمرها كله ظاهر، وحديثها كله شائع، وشمسها المشرقة دائماً لا تؤتمن على سر مصون. على أننا لم نقل في حديثنا ذاك شيئاً يسوء الأدباء أو يغضب أحداً، فليس من إذاعته بأس وإن كنت لا أحب ذلك، ولا أرتاح إليه، ولا أخفي عليك أني إنما أثرت أن يكون اجتماعنا الليلة عندي لأني واثقة أن لنا من العزلة ما نحب، وبأن أحداً لن يستطيع أن يندسّ لنا، أو يتسمّع علينا. قالت: إلا هذه الطير التي تؤوي إلى الأغصان إذا أقبل الأصيل ودنا الليل، وإلا هذه الجن التي تستظل بالأشجار وتتضاءل أحيانا حتى تتخذ لنفسها منازل في ثنايا العشب وبين أوراق الأزهار. في هذه الطير، وفي هذه الجن، وفيما يحيط بنا من الزهر والشجر من يسمع لنا وينمّ بما نتساقى من ماء الورد، وما يجري بيننا من لغوِ الحديث، قالت: وأيُّ بأس بأن يذاع ما يجري بيننا من لغو الحديث؟ إنما يكره الناس جد الحديث ويخافونه، فأما لغو الحديث فالناس مزدرون له، أو راغبون فيه. قال: وهل تظنين أنا نستطيع أن نأخذ بالجد حين نعرض للحديث عن الأدب والأدباء في مصر؟ وأين تجدين الجد في حياة الأدب والأدباء؟ أتجدينه في هذا الحوار الذي يطول ويطول حتى يثقل ويمل حول ألفاظ وقعت في كتاب، أو حول رأي رآه ناقد في كتاب، أو حول حديث كان بين كاتبين، أو مناظرة يسيرة كانت بين أديبين؟ أليس هذا كله دليلاً على فراغ البال واحتياج الأدباء إلى ما يشغلون به أنفسهم عن هذه الأحاديث الطوال الثقال التي تضيّع الوقت، وتفني الجهد دون أن تنفع أو تفيد؟ قالت: هذا حق ولكن الأدباء أصحاب كلام وما داموا يتكلمون فهم يؤدون حق الناس عليهم فالناس لا ينتظرون منهم إلا أن يكتبوا لهم ما يقرؤون. قال: لا كل ما يقرؤون بل ما ينتفعون به إذا قرؤوه. قالت: هنا نختلف فقد ينبغي أن نتفق أولاً على معنى الانتفاع بما يقرأ أنت تريد إذا قرأت كتابا أو فصلا أن تفيد شيئا جديدا أو أن تضيف علما إلى علم وأن تنمي حظك من الثقافة أو أن يثير ما تقرأه في نفسك عاطفة أو لونا من ألوان الشعور وأنت لا ترضى من القراءة دون هذا.
فأنت عسير ليست السبيل إلى إرضائك سهلة ولا ويسيرة. وأنت لذلك تلتمس قراءتك عند