كثرت في هذه الملاوة مدارس الشعر وتعددت مذاهبه. فترى من الشعراء من يقصد إلى المعنى غير محتفل باللفظ أو الصياغة، وهو في ذلك يسير بالشعر في طريق النثر. وترى منهم بعضاً يعنون بالصياغة واللفظ دون التفات إلى التجديد في المعنى؛ وعذرهم في ذلك أن عنترة شاعر الجاهلية قد قال (هل غادر الشعراء من متردم) فإن كان عنترة منذ ألفي عام قد يئس أن يجد معنى جديداً فهل يبحثون هم عن معنى جديد بعد هذه الحقبة الطويلة من السنين التي مرت فانتهكت القديم وأخلقته، بل وأخلقت أيضاً ما ظهر في غضونها من معان جديدة؟
ومن الشعراء من يقول إن الشعر الصادق إشعاع للعاطفة، والعواطف منذ كانت خالدة على الزمان لا تتغير؛ فواجب الشاعر إزاءها أن يبين عنها في أنصع تعبير. وهنا يختلف القوم مرة أخرى، فمنهم من يرى أن الصياغة يجب أن تكون مشرقة في عربية صريحة لا تيسير فيها، ومن الشعراء من يرى وجوب التحلل من قيود الصياغة العربية؛ ويقف البعض موقفاً وسطاً فتراه يلتزم السهولة في تعبيره مع التزام الصياغة العربية معتقداً أن واجب الشاعر هو الوصول إلى قلب سامعيه من أقرب طريق، وزعيم هذه المدرسة هو الشاعر العربي الأكبر إيليا أبو ماضي. وقد انضوى كل شاعر تحت مدرسته يأبى أن يجيز لأي مدرسة أخرى أن تقول الشعر معتقداً أن الشعر هو ما يكتب وما دونه كلام لا يصح أن يسمى شعراً. . . ولاشك أن هذا التعصب ينساق مع طبيعة الشاعر المتكبرة ولكن واجبه إزاءها ألا ينتقد أبداً. . . ذلك أن نقده على أية حال سوف يكون - رغم أنفه - جائراً. وواجب النقاد إزاء كل هذه المدارس أن يقفوا منها على حياد المتفرج حتى يحكموا على كل شاعر بالنسبة للمدرسة التي يؤمن بها، وبهذا يكون المعيار سليماً لا تحيز به ولا إجحاف. . .