عهد إليّ الأستاذ (الزيات) أن أتولى تحرير هذا الباب من (الرسالة)، فأجبت إرادته بالتسليم، وأنا أجد المعاني في نفسي حائرة لا تكاد تقر؛ فقد لحقتني إرادته والحياة من حولي تفتِّرني حتى ما أحس من فورتها إلا القليل، والنفس منبوذة على حدود النشاط في كسلٍ مجدب بالقحط والظمأ لا يهتدي إليه رِيٌّ ولا شِبَع. وإذا كانت النفس كذلك لم يأت خيرها إلا من طول الإحساس بالحرمان والألم، فهي تريد أن تتكلم من نوازعها بألفاظ ثائرة ضائعة حائرة كأنما تبحث عن نفسها في معانيها. . . ثم لا تتكلم، وثن على ذلك لا تطيق التأمل في المادة التي تعرض لها إلا بمقدار من الرغبة في البحث عن نفسها في سر نفسٍ غيرها لتجد عند ذلك أسباباً تهتاج بها وتضطرب. وإذا لم تجد النفس لذتها المؤلمة إلا في انتزاع الآلام المحرقة مما ترى وتسمع وتتخيل، فكيف تعيش أفكارها إلا في دخانٍ من الأحزان الصامتة صمت الفكرة المختنقة التي لا تجد أنفاسها ولا جوّ أنفاسها. هكذا أَجدُني
وهذه النفس المنبوذة بما جنت وبالذي لم تجن من شيءِ، هي النفس التي أريد أن أتولى بها النظر فيما يعرض لي من شؤون الأدب في أسبوع من أسابيع (مصر)، ولقد تشاكلا ووقع حافرٌ على حافر في حَلْبة مغلقة. فنفسي الآن هي نفسي التي لا أكاد أجمعها وألم أشتاتها إلا قليلاً، وما هو إلا أن أراها مبعثرة تَفِرّ مني أوابدها في كل وجه، وأقف أنا أتلفت. . . أنظرها وهي تغيب في ظلام الأحزان، وتترك عندي أطيافاً من الذكرى تطوف في تأملاتي مرسلة من مزاميرها ونايها أنغاماً حزينة مهجورة متفجعة كأنما تقول هذا مكان كان أهله ثم بادوا. وهكذا أيضاً أجدني
في بعض الإنجيل هذه الكلمة:(من وجد نفسه أضاعها، ومن أضاع نفسه من أجلي وجدها)؛ أفيكون معنى ذلك أن النفس الإنسانية لا توجد باقية أبداً إلا وهي مستهلكة، وأن الأشياء الشريفة التي تهلك هي بعينها التي تحيى، وأنه لا معنى للشيء الحي إلا أن يجتمع فيه معنى الأشياء الشريفة الموت والحياة معاً؛ وأن استغرق النفس واستهلاكها في الأحزان النبيلة وتعذيبها بها هو استحياؤها وتنعيمها، وأن العمل المهلك والفكر المهلك هما العمل