أتذكر - يا صاحبي - يوم لبست القبعة لأول مرة، يوم أن كنت ترسف في قيود أربعة: أبيك وهو جافي الطبع شيطاني الجبلة أرضي النزعة، وأمك وهي مستكينة واهية متداعية، ورئيسك وهو يستذلك بفضله وأياديه، وعميدك وهو يتخذك صنيعة له وداعية لأغراضه. لطالما استيقظت كرامتك فتراءيت في عين نفسك سقيم الوجدان مستلب الرأي والإرادة، وكنت لا تجد خلاصاً إلا أن تعق والديك فلا تزورها أبداً ولا تعني بأمرها، وإلا أن تستخذي لرئيسك وأن تتودد لعميدك عسى أن تكسب الرضا أو تدفع الأذى.
ورأيت الميناء يموج بالسفر من كل جنس، وإلى جانب كل مسافر ثلة من الأهل والأصدقاء يودعون وينصحون ويشجعون. وإن كلمات الوداع الحارة لتصاعد حواليك تصك مسمعيك، وإن عبرات الحب والإخلاص لتنهمر هنا وهنالك على خطوات منك لتكون قذى في عينيك. ولكنكأنت لم تجد صاحباً واحداً يرفه عنك وينفث فيك من روحه ومن شجاعته ومن حبه، فوقفت وحيداً تنظر.
وتحركت الباخرة فوقفت على ظهرها جامداً ترمق أرض الوطن وهي تتوارى خلف الأفق فما نبض قلبك بشوق ولا خفقت روحك بحنين ولا جاشت مشاعرك بعاطفة. ثم وليت وجهك شطر الغرب، ورحت تتنسم أول نسمات الحرية - كرأيك - حين خيل إليك أنك ألقيت عن نفسك قيوداً أربعة كبلك بها الوطن.
ترى هل استمتعت هناك بالحرية التي افتقدت هنا؟
وتقبلك عميد الجامعة هناك بقبول حسن لأنك صنيعة معهد (كذا) الأجنبي، وإن جناب العميد لرجل علم وأدب وإنه لذو حيلة ودهاء، ولكن ماذا أفدت هناك؟
لقد عشت هناك مثلما عشت هنا: منقبض الأسارير تأنس بالوحدة وتطمئن إلى الخلوة، تغدو إلى الجامعة وتروح إلى الحجرة، تصغي إلى الدرس - صدر النهار - في غير ملل، وتنكّب على الكتاب - شطراً من الليل - في غير ضجر، وإن عميد الجامعة هنا ليحبوك بعطفه ويغمرك بفضله لأنه يمتّ إلى عميد المعهد هنا بأواصر هي: الصداقة في الشباب