جاء إلى الحيات والدمع في عينيه، ورحل عنها والدموع في عينيه. . . وتلك هي قصته: قصة الدمع الذي شاب والشعر في سواد الليل، والروح الذي أكتهل والعمر في ربيع الأمل، والزهر الذي صوَّح والعطر في رياض الشباب!
من هو؟ لا أحد يعرفه. . . لقد عاش غريباً في دنياه: همسة تنطلق من فجاج الصمت لتتلاشى في سكون العدم، وومضة تشع من وراء الأبد لخبو في ظلام اليأس، ولحن ينساب من أوتار الزمن ليشجى كل عابر سبيل!
يخيل إليَّ أنه لم يكن بشراً من البشر. . . لقد كان روحاً: روحاً شرب من خمرة الأسى المعتقة في دنان الشجن حتى ثمل، و: أن الأيام حين طافت عليه بكئوسها قد ثملت معه فنسيت غيره من الشاربين. وكان طيفاً: طيفاً شفه الحزن حتى لكأن الوجود مأتم كبير، ترملت فيه أحلامه ومنيت بالشكل أمانيه، فكل تعزية في حساب الشعور وهم لا يجدي وسلوة لا تحين!
تسألني عنه؟. . . لقد كان (قارئاً) من قراء (الرسالة)، حدثني عن نفسه يوما فكتبت أليه، وشكا إلى الحياة فأشفقت عليه، ثم لم نلتقي بعد ذلك إلا في عالم الرؤى والطيوف! كل ما بقى منه سطور رأيته من خلالها رأى الفكر، وصورة رأيته من ظلالها رأى العين. . . وما تستطيع يدي بعد اليوم أن تمتد إلى رسائله. . . وما تستطيع عيني بعد اليوم أن تنظر إلى صورته. رباه إني لا أخشى أن تحرقني ناره إذا ما قرأت، ولكنني أهاب نبش القبور إذا رقدت فيها الذكريات. . . ولا أن يلوعني وهج نوره إذا ما نظرت، ولكنني أفزع من رؤية الشموع إذا احتضرت على فراش الغروب!
لقد كانت كل رسالة من رسائله تحمل إلي معنى من معاني القبر في كلماتها كم شهدت مصرع الفكر، وفي زفراتها كم شممت رائحة الموت، وفي أناتها كم سمعت صوت النعاة. وكم أشفقت أن يصبح الظن حقيقة. . . وأن أصحو يوماً على وقع أقدام المشيعين.
ألا ما أعجب القدر حين يفرق بين الناس ويدفع كل حي إلى طريق. . . بسمة ترف على