أما في العصور القديمة حين كان الإنسان رشيدا حذرا يطلق خياله إلى أبعد مدى ممكن، لأن إطلاق الخيال لا يضر ولا يخيف ولا يرسل عقله وجسمه إلا في أناة وبمقدار، لأن إرسال العقل والجسم بغير حساب قد يؤدي إلى ما لا يحب، أما في تلك العصور فقد كان الناس يطيرون في الخيال. يطيرون مجازا لا حقيقة، وقد تتحدث أساطيرهم بأن منهم من حاول أن يطير حقا، فلما ارتفع في الجو دنا من الشمس فذابت أجنحته التي اتخذها من الشمع ولم يلبث هو أن هوى إلى الأرض فاندق عنقه، ولقي من الموت جزاء على هذه الجراءة التي سمت به إلى أرقى ما يجب أن يسمو إليه الناس. فقد خلق الناس ليمشوا على الأرض لا ليطيروا في الجو، فمن عدا منهم طوره أو تجاوز حده لقي هذا الجزاء الذي لقيه طائر الأساطير اليونانية حين أذابت أجنحته الشمس، أو ما لقيه طائر الأخبار العربية حين كان جسمه اثقل من خياله فلم يكد يسلم نفسه إلى الهواء حتى خانه الهواء وأسلمه إلى أمه الأرض فدقت عنقه أولاً. ثم حنت عليه بعد ذلك كما تحنو الأم الرؤوم على ابنها العزيز.
كان ذلك في العصر القديم حين كان خيال الإنسان اكبر من عقله. وأشد من اجتراء على الطبيعة وما يلبث فيها من المصاعب والعقاب وكان أسلافنا من أدباء العرب وشعرائهم محبين للأناة، يطيرون ولكن دون أن يفارقوا أماكنهم، تطير نفوسهم وقلوبهم شوقا إلى من يحبون، وتطير نفوسهم وقلوبهم فرقا ممن يكرهون، وقد تطير أجسامهم إلى ساحة الحرب وميادين القتال حين يأتيهم الصريخ ويبلغهم فزع المستغيث. ولكن أجسامهم كانت تطير دون أن تفارق أقدامهم الأرض، كانوا يسرعون في العدو فيحسبون إنهم يطيرون، ولعل منهم من كان يطير في الجو، ولكن على ظهر ناقة أو جمل. فكان يباعد بين قدميه وبين الأرض، ولكنه كان يتخذ بينه وبين الأرض سببا على كل حال. ومنهم من كان يسعده الحظ وتواتيه الثروة فيطير على ظهر فرس أو جواد، ويحسب مع ذلك أنه يطير حقاً، وربما عبث به الوهم ولعب به الخيال فظن حينا أنه يطير، وظن حينا آخر أنه يسبح في الماء، أما الآن فلست أدري أضعف الخيال أم لم يضعف، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو ان العقل والجسم أخذا يسابقان الخيال فيسبقاه في كثير من الأحيان، فلم يبق الطيران في