الجو حلما ولا وهما ولا نبأ من أنباء الأساطير، وإنما أصبح أداة يسيرة من أدوات الانتقال. وكان منذ أعوام أداة مقصورة على أصحاب الجرأة من الفنيين، ثم تجاوزهم إلى أصحاب الجراءة والسعة من المترفين وفارغي البال، ثم تجاوزهم إلى أصحاب الثروة الذين يحبون السرعة ويستطيعون الانفاق، ثم أخذ منذ حين ينزل ويتدلى دون أن يفارق الجو، ولكنه ينزل ويتدلى على كل حال حتى بلغ أمثالك وأمثالي من أهل الطبقات الهينة اليسيرة المتواضعة التي يسمونها الطبقات الديمقراطية. وأصبح الطيران في هذه الأيام أداة من أدوات الانتقال قد يعجز العمال عن استخدامها، ولكن أهل الطبقات الوسطى لا يعجزون عن ذلك ولا يترددون فيه، والغريب انه بعد أن تقدم أو تأخر في أوربا وأمريكا إلى هذا الحد وصل إلى مصر واستقر فيها، ان صح إن الطيران يستطيع أن يستقر. وصل إلى مصر واصبح أداة للانتقال يستخدمها المصريون الذين عرفهم الزمان ببغض السرعة وحب الأناة والحرص على الثبات والاستقرار. أليس آباؤهم قد بنوا الأهرام. ومع ذلك فقد أخذ المصريون يطيرون، ولم يقتصر الطيران على الرجال في مصر، بل تجاوزهم إلى النساء فهن يطرن أيضا وهن يسابقن في الطيران، وهن يسبقن الطائرين، وقد كان مكتوبا عليهن أن يلزمن الدور ويعكفن من وراء الخدور. ولكن ماذا نصنع وقد ارتقى العقل حتى سابق الخيال، وارتقى الجسم حتى استطاع أن يطير ويبلغ آماداً وبيئات لم يكن يبلغها من قبل إلا الخيال والوهم. وأغرب من هذا وذاك إن الطيران قد هان ولان وسهل أمره وابتذلت قيمته حتى أصبح مباحا لقوم ما كان ينبغي أن يباح لهم لولا أن الفساد قد دب إلى كل شيء وتسلط على كل شيء وأصبح الناس ينظرون فلا يعرفون أين يعيشون، ولا كيف يعيشون.
وهؤلاء القوم الذين سخر لهم الطيران في آخر الزمان هم الأدباء. والأدباء المصريون، أرأيت إلى أديب عربي يطير؟ أين نحن من أيام طرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، وزهير، وغيرهم من الشعراء الذين كانوا إذا حز بهم الأمر وألح عليهم الهم وعبث بهم شيطان الشعر يعمدون إلى نوقهم فيركبونها ثم يخرجون بها في الصحراء ليسلوا عن أنفسهم همها، وليتلقوا عن شياطينهم ما يريدون أن يوحوا إليهم من جد الكلام وهزله. ثم يعودون وقد فتنوا بهذه النوق وقالوا في وصفها ما لا نزال نتكلف في فهمه وتفسيره ضروب المشقة وألوان العناء.