كذلك كان يفعل أسلافنا من شعراء الجاهلية والاسلام، أما الآن فصديقنا الأستاذ عبد العزيز البشري يطير لا بالخيال ولا بالعقل ولا على جناح الفلسفة، وإنما يطير حقا، يطير من هليوبوليس إلى الإسكندرية، ثم يتحدث عن طيارته كما كان يتحدث طرفة عن ناقته، أو كان يتحدث صاحب العرداة عن عرادته، أو كما يتحدث أبو نواس عن ناقته في تلك الأبيات التي يحسن الأستاذ عبد العزيز البشري خاصة إنشادها وتوقيعها، يتحدث عن هذه الطيارة حديثا أي حديث، حديثا ساحراً حقا، باهراً حقا، نشرته الأهرام في الصيف فأعجبت به حتى لم أنسه إلى الآن على كثرة ما قرأت منذ الصيف، حديثا لا تكاد تمضي فيه حتى تحس كأن الأستاذ يعرف طيارته كما كان طرفة يعرف ناقته، ومع ذلك فما أظن أن للأستاذ علما مفصلا بهذه الشياطين التي تطير بالناس في الجو منذ طغى العلم الحديث. ولكن للبيان سحراً ينطق صاحبه بالأعاجيب، وما دام الأدباء وقد أخذوا يطيرون، وما دام الطيران قد أصبح أداة، من أدوات الانتقال فلابد من أن تتغير لغة الناس بعض الشيء، ولابد من أن يلتمس المبالغون لأنفسهم ألفاظا أخرى يعبرون بها عن السرعة حين يريدون أن يصفوا السرعة، فقد كانوا يطيرون شوقا حين كان الطيران أمراً مستحيلا، أما الآن فيجب أن يجدوا للشوق أداة ينتقل بها غير الطيارة، وبيئة ينتقل فيها غير الجو.
وقد أخذ الأدباء الأوروبيون يسلكون الطريق الطبيعية إلى هذه الغاية، وأول ما كان ينبغي أن يفعلوه من ذلك إنما هو تسخير الطيارة للأدب بعد أن سخرت للعقل والجسم، ولعقول الأدباء وأجسامهم بنوع خاص، أخذوا يفهمونها ثم يصفونها ويعبرون عنها تعبيراً أدبيا بعد أن كان وصفها والتعبير عنها مقصورين على العلماء الذين يخترعون، والعمال الذين ينفذون، والصناع الذين يعالجون أجزاء الطيارة في كل ساعة من ساعات النهار. ثم لم يكتف الأدباء بالفهم والوصف والتصوير فيما يكتبون من المقالات، وما ينظمون من القصائد وما يذيعون من الأحاديث، ولكنهم تجاوزوا ذلك فاستغلوا الطيارة في فنون الأدب كلها. فما الذي يمنع أن تكون الطيارة موضوعا يلهم أصحاب القصص، ويلهم أصحاب التمثيل، وإذا كان من الحق أن الناس يأتلفون ويختلفون وتثور بينهم عواطف الحب والبغض فتؤثر في حياتهم أبلغ الأثر وأعمقه، وتلهم القصاص أن يصوروا من ذلك ما يريدون، فإذا بعضهم يصور من ذلك ما يقع في قطار، وبعضهم يصور من ذلك ما يقع في