للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٢ - محاولات أفلاطون]

معذرة سقراط

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

أخذت ألتمس الناس رجلاً فرجلاً وأنا عالم بما أثيره في الناس من غضب كنت آسف له وأخشاه، ولكنها ضرورة لم يكن عن المضي فيها محيص. إنها كلمة الله، ويجب أن أُحلها من اعتباري المكان الأسمى، فقلت لنفسي: لابد أن أحاور أدعياء العلم جميعاً لعلي أفهم ما قصدت إليه الراعية. وأقسم لكم أيها الأثينيون أغلظ القسم - فواجبي أن أقول الحق - إنني قد انتهيت من البحث إلى ما رويت، وقد صادفت فيمن هم دون هؤلاء مقاماً رجالاً بلغوا من الحكمة ما لم يبلغه هؤلاء. وسأقص عليكم حديث تجوالي وما عانيت خلاله لتحقيق ما قالته الراعية. تركت رجال السياسة وقصدت إلى الشعراء، سواء في ذلك شعراء المأساة أو الأغاني الحماسية أو ما شئتم من صنوف الشعر، وقلت في نفسي: إن الأمر لا ريب مكشوف لدى الشعراء فسأجدني بازائهم أشد جهلاً. ثم جمعت طائفة مختارة من أروع ما سطرت أقلامهم، وحملتها إليهم أستفسرهم إياها لعلي أفيد عندهم شيئاً. أفأنتم مصدقون ما أقول؟ واخجلتاه! أكاد أستحيمن القول لولا أني مضطر إليه، فليس بينكم من لا يستطيع أن يقول في شعرهم أكثر مما قالوا هم وهم ناظموه. عندئذ أدركت على الفور أن الشعراء لا يصدرون في الشعر عن حكمة، ولكنه ضرب من النبوغ والوحي. إنهم كالقديسين أو الأنبياء الذين ينطقون بالآيات الرائعات وهم لا يفقهون معناها. هكذا رأيت الشعراء، ورأيت فوق ذلك أنهم يعتقدون في أنفسهم الحكمة فيما لا يملكون فيه من الحكمة شيئاً استناداً إلى شاعريتهم القوية. فخلفت الشعراء وقد علمت أني أرفع منهم مقاماً، فقد فضلني عليهم ما فضلني على رجال السياسة. وأخيراً قصدت إلى الصناع، وكنت أظنني جاهلاً بما يتصل بالصناعة من علم، وكنت أحسب أن لدي هؤلاء الصناع مجموعة طريفة من المعارف، وقد ألفيتني مصيباً فيما ظننت، إذ كانوا يعلمون كثيراً مما كنت أجهله، فكانوا في ذلك أحكم مني بلا ريب.

ولكني رأيت حتى مهرة الصناع قد تردوا فيما تردى فيه الشعراء من خطأ، فتوهموا أنهم ما داموا أكفاء في صناعتهم فلابد أن يكونوا ملمين بكل ضروب المعرفة السامية، فذهبت سيئة

<<  <  ج:
ص:  >  >>