ركبَتْ من أول محطة لترام مصر القديمة وهي كهلال الشك، جلد على عظم، وعلى يديها طفل قد جلل بالبياض، وعصبت عيناه، وغطي رأسه ووجهه بشاشة زرقاء
وركب في المحطة التالية سيدة نصَف، أطيب شطريها الذي ذهب، ممتلئة البدن، سمينة الضواحي، فحيت الأولى، وتحادثتا
والنساء سريعات التعارف، تراهن في طرفة عين يتحدثن إلى من لم يعرفن قبل في أدق الأمور، وأعمق الأسرار، حتى كأنهن صديقات العمر، ورفيقات الصبى؛ فهن يتحدثن بعد دقيقة في السعادة والشقاء، وأوصاف الأزواج وعيوبهم، والحموات ومصائبهن ومضايقتهن، والدخل والخرج؛ وقد ينتقلن إلى ما هو أدق من ذلك وأصعب، مما لا يستطيع الرجال أن يتكلموا في بعضه إلا بعد عمر طويل، وصداقة متينة، ومشاركة في السراء والضراء
وبعد لحظة صرخ الطفل وأمعن في الصراخ، تحاول أن ترضعه ليسكت فلا يسكت، وتنميه فلا ينام، وتتبع معه كل الأساليب التي تعلمتها في إسكات الأطفال فلا تنجح، وأخيراً تدعو عليه بالموت فلا يستجاب لها
- الثانية - ما له؟
- الأولى - رمدت عيناه من أيام ثلاثة فشرّبني المر، وفي الليلة الماضية لم أذق طعم النوم، وأنا طول الليل واقفة على رجلي أذرع الحجرة من أولها إلى آخرها ومن آخرها إلى أولها، وكلما هدأ وبدأ النوم ذهبت إلى السرير لأنيمه وأنام فيصرخ ويكرر النغمة عينها ويمثل الدور نفسه إلى الصباح، حتى دار رأسي، ومللت الحياة، وتمنيت الموت، ولم أر للحياة طعما مذ رأيت الأولاد، وهانا ذاهبة إلى طبيب العيون
أمعك أولاد أخر؟
نعم - معي خمسة وهذا سادسهم؛ وقد حاولت بكل الوسائل أن أمنع الحمل بعد أول ولد ففشلت وفشلت. ومرة حاولت أن أخلص من جنين فكدت أخلص من نفسي وبقى الجنين. ومرة أصبت بنزيف شديد فعرضت نفسي على طبيب فقال إنه إجهاض، وليس من أمل كبير في بقاء الجنين؛ ثم أمرني أن ألتزم سريري ولا أتحرك، وأنام على ظهري دائماً،