في الأقوال السائرة أن الفقير كلما طلب من الله قرشاً أعطاه كرشاً. وفي ذلك حكمة للعليم الحكيم تستسر دلائلها على الفطن المحدودة. فإن قوام العيش ونظام الدنيا منوطان بالسعي المرهق والعمل المهين، وهذان لا يقوم بهما إلا الكثرة، ولا يحفز عليهما غير الحاجة. والغني المترف يحسب أن يديه لم تخلقا إلا لصرف النقود وقطف الخدود ورفع القدح؛ فمثله كمثل السبع من الوحش والطير: يهلك ولا ينتج، ويدمر ولا يعمر؛ فكان من صلاح الأرض أن يقل نسله كما يقل نسل الأسود والنمور، ويكثر نسل الفقير كما يكثر نسل الضأن والبقر. ولكن حكمة الله ضاعت في غفلة الناس، فبغي الغني على الفقير حتى أصبح وهو مصدر الإنتاج في النسل والحرث، مفدوحاً بحمله فلا ينهض، ومكدوداً بعمله فلا يستطيع. ثم نبا كوخه الجديب الضيق عن بنيه فدرجوا في أفازيز الشوارع وزوايا الطرق وعليهم هلاهل من أخلاق الثياب تهتكت على الصدور والجوانب، يستندون الأكف بالسؤال، أو يستدرون الجيوب بالسرقة، أو يأكلون ما طرح الناس من فضلات الطعام في المزابل. هؤلاء الأطفال المشردون هم الذين تراهم يطوفون طول النهار وثلثي الليل على القهوات والحانات، كما تطوف الكلاب والهررة على دكاكين الجزارة ومطاعم العامة، وهمهم أن يصيبوا ما يسد الرمق ويمسك الحياة. فإذا أغلقت المقاهي وهجعت المدينة تساقطوا من السغوب واللغوب على العتبات وفي الحنايا وتحت الجدر، فيقضون آخر الليل بعضهم في بعض كما تتداخل خراف القطيع إذا عصفت الريح أو قرس البرد.
هؤلاء الأطفال المهملون هم الذين يستغل ذكاءهم تجار الرذيلة، وسماسرة الجريمة، يسلطونهم على القلوب البريئة والجيوب الآمنة، فيسلبونها العفة والمال، ثم لا يكون نصيبهم من هذه الثمار المحرمة إلا الخوف والجوع والأذى والمطاردة. يغرون الصبيان بالشر، ويوزعون المخدر في السر، ويسرقون السابلة بالحيلة، ويستجدون الجلوس بالرحمة، ويجمعون الأعقاب من الطرق، وكل أولئك لطغمة من المتعطلين يتعقبونهم بعين النسر من بعيد؛ حتى إذا اخذوا ما معهم تركوهم لأهوال الليل، فإذا خشوا منهم نفاراً أو فراراً كدسوهم في أقباء المنازل المهجورة فلا تدركهم عين الشرطة ولا تنالهم رعاية البر. ولا أدري كيف سالت على قلمي كلمة البر هنا، وهي لو كانت في لغة الناس لما كان كل هذا!