إن سادتنا المترفين ليأنفون أن تقع أعينهم على هذا القبح، وتدنو أثوابهم من هذا القذر، فهم ينهرونهم كما ينهرون الكلاب، ويذبونهم كما يذبون الذباب، ويفورون غضباً على الحكومة أن تسمح لهذه الحشرات أن تدب على الطرق المغسولة، أو تحوم حول الموائد المزدانة!
شق الله هذه الأشداق المنفوخة يا سادة! إن هؤلاء الأطفال الذين يحملون العلب بالأصباغ، أذكى من أطفالكم الذين يحملون القماطر بالكتب؛ وإن عباقرة العالم في الأدب والفن والعلم والحكم قد ولدوا كهؤلاء في مهاد اليتيم والعدم، ونشئوا في حجور الألم والفاقة، فاضطرهم الشقاء الباكر أن يعرفوا أن لهم أذهاناً للتفكير، وعقولاً للتدبير، وأيدياً للعمل؛ ففكروا ثم قدروا ثم علموا، فكان من آثرهم هذه الدنيا، ومن سيرهم هذا التقدم. أما أبناؤكم أبناء الدعة والسعة والرفاهة فانتفى عنهم العمل لقلة الحاجة، وضعفت فيهم أداته لكثرة البطالة، فاصبح المخ مستوياً أملس كالصحيفة، والجسم صقيلا املط كالديباجة، واليد رقيقة رفافة كالزنبقة. فهم تماثيل ناطقة للغباء الأنيق، تطعم وتنعم وتلهو على حساب الفقير الذي يعمل ولا يأكل، والأجير الذي يشقى ولا ينال!
بالله ما ذنب هذا الطفل الشريد الذي تتحامون مسه، وتتفادون مراه إذا كان القدر قد اختار له ذلك الأب البائس الذي يتزوج ولا يعاشر، ثم يلد ولا يعول؟ هل من طبيعة الحي أن يلقى أفلاذ كبده مختاراً في مدارج الطرق تطأها الأقدام وتتحيفها المكاره؟ هل تستطيعون أن تجدوا لذلك إذا وقع علة غير الفقر الذي يحمل الأب في أزمات القحط والحرب على بيع بنيه واكل بناته؟ فإذا كنتم تشفقون على نعيم عيشكم من رؤية البؤس، وتخشون على جمال حياتكم دمامة الفقر، وتضنون بسلام وطنكم على أدواء التشرد، فاقتحموا على الفقر مكامنه في أكواخ الأيامي وأعشاش العجزة، ثم قيدوه بالإحسان المنظم في المدارس، والصدقة الجارية في الملاجئ، تجدوا بعدئذ أن الدنيا جميلة في كل عين، والحياة بهيجة في كل قلب، وتشعروا أن روحاً عامة قد وصلت بين جميع الأرواح فاصبح الشعب كله جسماً حياً متآلفاً متكاتفاً تتغذى خلاياه بدم واحد، وتتساير نواياه إلى غاية واحدة!