توالت عليّ الذكريات، فألقيت كتابي، وأقبلت على ماضيَّ أفتش في حدائقه القاحلة عن وردة اخطأتها رياح الشتاء العاتية، وثلوجه وأمطاره، فتوارت في كنف صخرة، أو في حمى جدار، تكون صورة من الربيع الغابر، فلم أجد إلا رفات الأوراق التي كانت مخضرة زاهية، وهياكل الأشجار العارية التي كانت تلبس من حلل الربيع سندساً وحريراً، وقد خيم عليها الموت، وشملها برده القارس؛ فحولت وجهي شطر المستقبل، فلم ألق إلا ظلاماً فوقه ظلام، ووجدت حاضري راكداً ركود الفناء، ساكناً سكون العدم، فضاق صدري، وأغرقتني في بحرها الهموم، فجعلت أفتش عن رفيق يأخذ بيدي، وصديق أبثه همي، وأشكو إليه بثي، فلم أجد لي صديقاً إلا القراء، أولئك هم أصدقائي الذين لا أعرفهم، ولا أنتفع منهم بشيء، وما لي منهم إلا اعتقادي بأنهم يعطفون عليَّ، ولا يشاركون الحاسدين المؤذين حسدهم إياي وإيذائهم لي، فكتبت إليهم أحدثهم بشكاتي، وأروي لهم ذكرياتي. ولعل هؤلاء القراء يضيقون بحديثي صدراً، ويعرضون عنه ويستثقلونه، ولعل اعتقادي بصداقتهم وهم من الأوهام، غير أنني لا أحب أن أرزأ هذا الوهم، ولا أن أتيقن فساده، لأني أعيش به في دنيا الحقائق المرة. . .
ومن كان مثلي غريباً في بلدته التي يعرف نصف أهلها ويعرفه ثلثاهم، يمشي في المدنية الحافلة بالناس مستوحشاً منفرداً كأنه في صحراء، لا يلقى إلا رجالاً، لا يثني تعدادهم أصابع اليدين يجول في هذه الحلقة المفرغة، لا منفذ له منها ولا مخرج، قد خلت حياته من الفرح والألم، وغدت كالماء الآسن، لا تموج فيه موجة ولا تحركه ريح؛ ومن كان يتمنى أن يجد ما يشغله، ويحرك سواكن نفسه، وما يدفعه إلى الفكر والعمل، ولو كان البلاء النازل، أو الحريق المشبوب، أو النفي أو السجن. . . ومن كان يصبح فلا يدري ماذا يعمل في يومه، وكيف يدفع هذا اليوم، ويمسي فلا يعرف ماذا يصنع في مساءه، وكيف ينام ذلك الليل، ومن يحس بثقل الأفكار على عاتقه، ولكنه لا يجد إلى بثها سبيلاً، ويرى الوقت طويلاً والقوة حاضرة، ولكنه لا يعلم فيم ينفق وقته ويصرف قوته؛ ومن كان منعزلاً مثلي،