لا زاهداً في الحياة ولا هرباً من معاركها، ولكن يأساً من مقبل أيامها، وقنوطاً من خيرها، فهو يخلو إلى ذكرياته يتعلل بها ويتمززها، ويحادثها ويناجيها، ويحيا في خيالات ماضيه حين عجز عن الحياة في حقيقة حاضره؛ ومن كان مثلي لا يشكو الفقر في اليد ولا في النفس، ولكن الفقر في العمل؛ ومن كان يجمد بحمد الله من المال ما يكفيه في يومه ويفضل عن حاجته، ولكنه لا يدري ما يكون في غده؛ ومن كانت شكواه فرط الحس، وحدة الشعور، وجحود الناس وكان يشكو دنياه يتقدم فيها الهجين، ويتأخر الجواد الكريم، دنيا فسد فيها كل شيء حتى غدا عقلائها ينتظرون الساعة.
أدرك حقيقة حالي، وفهم مغزى مقالي، ولم يلمني مع اللائمين، ولا كان علي مع العداة الحاسدين. وكم قال لي: ألا تنسى هذا الماضي وتستريح من ذكره؟ ألا تدع المستقبل وتطرح التأمل فيه؟ ألا تعلم أن ما مضى فات والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها؟ فأقول: بلى، إني لأعلم ذلك، ولكن أين السبيل إلى النسيان؟ وإذا أنا نسيت كل شيء، فكيف أنسى أياماً عشتها لم أكن فيها الطائر المقصوص الجناح، ولا الغصن الذي قصفته الرياح، بل كنت أواجه العاصفة أستند إلى الجذع المتين، جذع السنديانة الراسخة، وأطير فوقها بجناحين قويين، فهاض الدهر جناحي، وكسر جذعي، حين أفقدني أمي، وصيرني عرضة للعواصف، وجعلني معها كالريشة لا تستقر على حال من القلق والذعر والاضطراب. . . وكيف أنسى أنه لو عاش أبي العالم الوجيه ذو المرتب الضخم ولم تخترمه المنية شاباً، لاحتمينا به من كيد الحياة، ولنشأنا في ظله كما ينشأ الفرع اللين وسط الدوحة القوية الممتدة الأفنان، ولما اضطررنا إلى مواجهة الدنيا، والتمرس بنكباتها، ومعرفة لؤم أهلها، ونحن فتية صغار، أطهار القلوب، مبرؤون من الذنوب، لا نلبث حتى نتلوث بأوضار الكيد والمكر، ونتلقف مبادئ (علم الحياة. . .) كما يتلقف الصبي المخطئ مبادئ (فن الجريمة) في السجن الأول، فلا يخرج منه حتى يحمل شهادة البكالوريا في الإجرام.
وكيف أنسى ما نثرت من قطع قلبي، وفلذات كبدي، في أرض الله الواسعة التي لا ترعى حق العواطف، ولا تحفظ عهد القلوب، في سفح قاسيون الحبيب، وفي الغوطة الغناء. . .
وفي حرش بيروت الذي يميس صنوبرة ميسان الغيد الحسان، وقد خرجن متبرجات، ينظرن إلى مياه البحر بعيون لها زرقة ماءه، وله سرارها بعد قراره. . . ذلك الحرش. . .