لن أتحدث عن مشاهدات في هذه البلاد رأيتها بعينيّ، فذلك شيء يستطيعه كل ذي عينين؛ وفلسطين اليوم هي فلسطين التي رآها من قبلي عشرات من الكتاب والرحالين وتحدثوا عن مشاهدها وآثارها ومعالمها؛ فهذا المسجد الأقصى، وهذه قبة الصخرة، وذاك مهد المسيح في بيت لحم، وذلك - فيما يزعمون - مصعده ومسْراه على الطور، وهذا حائط البرق، وذاك مصلَّى عمر، وتلك كنيسة القيامة. . . مشاهد كما وصف الواصفون وتحدَّث الرحَّالون وتغَّنى الشعراء؛ فليس بيّ من حاجة إلى الإعادة والتكرار. ولكني سأتحدث عن المشاهدات الأخرى. . . مشاهدات رأيتها بفكري وسمعت صداها في نفسي، وتحدث معناها إلى قلبي. . .
لقد أحسست أول ما هبطت هذه البلاد كأنما نضوت عن جسدي ثوباً كان يحتويني فأنا فيه غير من أنا: حسَّاً ومعنىً وفكرة؛ فما ألقيتُه عن جسدي حتى تواثبت نفسي منطلقةً على سجيتها في عالم غير محدود، لا تعرفه ولا تنكره، ولكنها فيه هي شيء غير ما هي كانت في هذا الثوب الذي يضم أطرافي منذ ثلاثين سنة أو يزيد. . .
أمصري أنا؟ لا؛ إن وطني لأكبر من ذاك. إن لي أهلاً هنا وأهلاً هناك. إن تراث الأجيال ليتحرك في دمي الساعة فيذكرني ما لم أكن أعرف. ما هذا. . .؟ لكأن لي في كل مكان ذكرى قريبة وما رأته عيناي قبل أن تراه عيناي. إن قوة من وراء التاريخ تربطني إلى هذا المكان، وتستوقفني عند ذاك الأثر، وتقف بي عند ذلك المنعطف، وتذكّرني بشيء في هذا الحي. إن هنا قبساً من روح أعرفها ترفّ حولي، ونفحةً من عطر أتشمَّمها تلامس روحي، وإن لي هنا لخفقة قلب، وإن لي هناك لدمعة عين، وإنني لأُلقيَّى خواطر وذكريات لم تكن من خواطري وذكرياتي؛ وإنني لأحس. . . وإنني لأشعر. . . فما أشك أن لي تاريخاً قبل تاريخي في هذا المكان، وأن لي ذكريات أبعدَ من ذكرياتي في هذا الحي، وأن الماضي الذي كان قبل أن أكون، هو إرث في دمي تحدَّر إليّ في أصلاب أسلافي ذكرياتٍ غامضة لا تكاد تبين إلا خفقات في القلب وزفرات في الفؤاد. . .!