كل جيل أو كل حضارة مرتبطة بسلسة من القيم الاجتماعية تؤمن بأن هنالك شيئاً أسمى من شيء، وأن عملاً أفضل من عمل، وترى أن الحقيقة أسمى من الضلال، وأن عاطفة الرأفة أفضل من عاطفة القسوة، وواجب التاريخ البشري هو تعيين هذه المقامات والفصل بينها، لأن هذه المقامات المنطوية على التقاليد الاجتماعية هي التي تسيطر على حياة الأفراد والجماعات، وتؤثر في كل أحكامنا ومناقشاتنا. وجدير بها والحالة هذه أن تشغل عقل الفيلسوف وأن تستبد بأكثر عقله وفراغه.
نظر نيتشه إلى هذه المقامات وتأملها ملياً، فجاءت نتيجة تأمله أن هذه المقامات التي تتعاقب عليها الحياة الأوروبية اليوم لهي مقامات فاسدة يجب تنكيسها لأنها لا تصلح للبقاء، وبهذا يتبدل مجرى حياتنا، وتبيد هذه العكازات التي تتوكأ عليها أحكامنا وأفكارنا. وقد نرى نيتشه - في أحد نوبات ألمه العنيف قبل ضياع عقله - ينذر بخراب مروع لهذه البشرية:(إنني أحلف لكم بأن الأرض ستتلوى متشنجة خلال عامين أثنين. . . إنني بنفسي قضاء وقدر)
إن الإنسان الحالي يضع في قائمة (القيم الاجتماعية) عدداً من القيم المطلقة العالية التي لا يمسها سوء ولا يشرف عليها عقل، ولا يتطاول إليها نقاش، وبواسطة هذه القيم يسعى إلى تبيين الحقيقة. من هذه القيم المعروفة مثلاً عنصرا الخير والحقيقة. وقديماً وحديثاً نرى أن تعبد الحقيقة والصدق هو رأس عقائدنا وإيماننا. ناهيك أن المفكرين أنفسهم وقفوا متهيبين إزاء مسألة الخير والشر حين عرضت لهم، وقد ظلموا مترددين أمامها، راعين للتقاليد التي توارثوها عنها. (فكانت) قد افترض وجودها.
وشوبنهاور وجد أن العقدة الأخلاقية إنما عقدة عامة، جميع الناس فيها سواء. (فلا تسئ