للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لأخيك، وأغث إخوانك ما استطعت). وهكذا تطامن الفلاسفة على هذه العقدة ولم يهزوا شجرتها. وكلهم تجمهروا ليدرسوا رأس الأخلاق وهذا الضمير الخلقي الذي أصطلح البشر عامتهم على احترامه والذي لا يزال يسيطر على الأجيال الحالية.

أعلن نيتشه الحرب على هذا التعبد للحقيقة وهذه العبادة لشريعة الأخلاق. وبدلاً من أن يتقبلها قبولاً لا مفر منه ولا وجه لمقابلته بجدل. رأيناه يقابلها كمسألة يدرس وجوهها ويحل مبهمها ويفترض ما يفترض في سبيل تفهمها. أليس من حقه أن يتساءل (ولماذا كانت الحقيقة خيراً وأحرى؟: ولماذا كان الخير أجدر من الشر بالأخذ؟) ثم حلّ هذه المسألة بذات الجرأة التي ظهر بها جاعلاً قاعدة الإنسان الحر هذه الكلمة المأثورة (لا شيء حقيقي في الوجود، كل شيء حلٌ للإنسان).

وما هذه الكلمات النظرية التي تتردد بحروف مختلفة وأسماء متباينة دون أن يخرج معناها بخروج مبناها إلا كلمات ابتدعها الخيال وثبتها الوهم. أما الحقيقة الجدير بالنظر، الحقيقة التي ينبغي لنا أن نعرفها فهي حقيقة عالم رغائبنا وأهوائنا. فكل ما تحتوي عليه حياتنا وإرادتنا وفكرتنا هو في الحقيقة نتاج ما فينا من الغرائز الحاكمة. وهذه الغرائز المتفرقة إنما تتشعب بها السبل إلى غريرة واحد، لا ترد إلا أليها ولا تصدر إلا عنها. هذه الغريزة هي إرادة القوة، هذه الإرادة التي تغنينا - لو رجعنا إليها في تحليل جميع مظاهر الحياة التي تحيط بنا ونحيط بها. فكل كائن - سواء كان من عالم الحيوان أو النبات أو الإنسان - يسعى إلى بسط سلطانه على غيره من الكائنات حتى يخضع له ما يخضع منها. وإن الحرب القائمة وهذه الجهود الدائمة، حيث لا تستقر حياة موجود إلا ببسط نفوذها ونشر قواها، هي الشريعة الأساسية في الوجود، وفي كل مظاهر الحياة - أنى كانت - ترى الغزيرة قائدها وهاديها: فإذا رأيت إنساناً ما يجنح بطبعه إلى حب الفضيلة والفن والحقيقة فهذا الجنوح إنما قام بفضل هذه الغريزة الطبيعية التي رأت من خيرها أن تسلك هذا السبيل، وهكذا قل في الفضيلة الدينية التي تجد بها بعض النفوس أقواتها وطعام غرائزها. وفي الحقيقة التي يضحي العالم في سبيلها بأزهى عمره تسوقه إليها إرادة القوة التي تعمل على بسط سلطانها، ولكن الإنسان مال إلى عبادة ما ابتدعه بنفسه (كمثل أعلى) ليشبع حاجة فيه من حاجاته. فبدلاً من أن يقول: سأحيا أنا لإشباع غرائزي، وسأتحرى عن الخير

<<  <  ج:
ص:  >  >>