لما جاوزنا (أبا الشامات) وأصحَرنا، ونظرت بين يديّ وعن يميني وعن شمالي، فلم أجد إلا الصحراء الصامتة لرهيبة الموحشة، ووجدت دمشق التي أحببتها ولقيت فيها من يحبّني، وألفتها وتركت في كل بقعة منها قطعة من حياتي وطائفة من ذكرياتي قد اختفت وراء الأفق، وتضاءل (قاسِيُونها) وصغر حتى ما يبدو منه إلا خيال علويّ يلوح في السماء له وميض ولمعان، أحسست بلوعة الفراق فخفق قلبي خفقاناً شديداً:
كأن القلب ليلة قيل يُغدي ... بليلي العامريّة أو يُراح
قطاة غرّها شرك فباتت ... تعالجه وقد علق الجناح
وخالطني حزن عميق وشعور مبهم، أعرفه من نفسي كلما سافرت سفراً بعيداً - على كثرة ما أسافر وأبتعد - شعور من يجد الموت ويبصره بعينه! ولم لا؟ وهل لحياة إلا أن تقيم في المكان الذي تألفه، وترى الناس الذين تحبّهم، وتصل ماضيك بحاضرك بصورة تراها، أو نغمة تسمعها، أو بقعة تحلّها؟ وهل يحيا المرء إلا في الأمكنة والوجوه، وبالذكريات والآمال؟ وهل الموت إلا أن ينبتر مما يحيط به، وينقطع عن كل ما يعرف، ويقدم على بلد مجهول وحياة غريبة عنه لا عهد له بها ولا نبأ عنده منها؟ أو ليس للإنسان حياة ظاهرة في قيامه وقعوده وطعامه وشرابه وجيئته وذهابه، وحياة باطنة في أفكاره وذكرياته وآماله وآلامه وميوله وعواطفه؟ أو ليست حياته الباطنة هي الأصل وهي الأساس، فلا يحيا إلا بها ولا يقوم إلا عليها، كما أن الشجرة لا تحيا إلا بجذورها الممتدة في جوف الأرض المختفية في بطن الثرى، فإذا انقطع المرء عن عادته، وابتعد عن أهله وصحابته، لم ينفعه أنه لا يزال يقوم ويقعد ويأكل ويشرب، كما أن الشجرة لا تنفعها أغصانها وفروعها، إذ هي بُتّت من أرضها، وقطعت من أصلها، وفصلت عن جذرها. وأحسب أن الله جلّ وعزّ ما قرن الموت بالإخراج من الديار، وأجزل ثواب المهاجرين في سبيل الله، التاركين أوطانهم ابتغاء مرضاة الله، إلا لأن الهجرة ضرب من ضروب الموت ولون من ألوانه. . . فإن (تعدّدت الألوان فالموت واحد)!
وازدحمت في نفسي صور حياتي في دمشق، وحبّبت إليّ أضعاف ما كنت أحبّها، ومرّت