(انفخي النار أو أذكيها فإني بردان، ولست أجد حرّها)
وكان الوقت شتاء، والبرد قارساً، والرياح متداركة الهبوب تقشر الحصى عن وجه الأرض، وتهيج بالغبار نحو السماء كالعمود. ولكن الغرفة كانت دافئة، والنار في مواقدها تتسعر، فعجبت الزوجة، ونظرت من زوجها إلى الموقد، وقالت:(بردان؟ بردان والغرفة كجهنم؟ لقد ألقيت عليها منذ دقائق خشباً كثيراً لا يزال يفرقع من شدة التلهّب، فكيف لا تحسها ولا تسمعها؟ مالك؟ أبك شيء؟)
فهز الرجل رأسه هزة خفيفة، وقال وهو يمد يديه:(لا. .،!! خذي أشعلي لي هذه)
وناولها سيجارة كان يقلبها بين أصابعه، فوضعت طرفها على النار ونفخت فيه حتى صار كالجمرة المتلظية، ووضعتها بين أصابعه وهي تقول:(سأعود إليك قبل أن تفرغ منها)
وخرجت وردت الباب وراءها، فتنهّد الرجل وأطرق. وفرغت السيجارة، وشعر بحرّها على أصابعه، فأراد أن يطفئها أو يرمي بها، فمد يده الفارغة يتحسس حتى لمست أصابعه حرف منضدة صغيرة، فأجرى راحته عليها، حتى التقت أنامله المرتعشة بشيء فرفعها إليه يريد أن يتبينه، فانقلب وتحطم، فرد يده بسرعة، وقد تجهم وجهه؛ ثم تنهد، ورفع قدمه وانحنى على الأرض، ووضع السيجارة تحت حذائه
وكان الذي يراه وهو جالس على الكرسي، ورأسه مثنيٌّ على صدره، خليقاً أن يتوهمه نائماً من فرط السكون. ولكنه لم يكن نائماً ولا ذاهلا؛ وإنما كان مُرهفاً أذنه لحركة الأقدام في غرفة ابنته، ولما عسى أن يتأدى إليه من الأصوات غير ذلك على الرغم من الباب الموصد عليه. وكانت زوجته لا تزال تعود إليه كل بضع دقائق لتطمئن عليه على زعمها، فقد أقلقها عليه قوله إنه بردان في هذه الغرفة التي يُشتكى حرُّها؛ ولا يُعقل أن يشتكي بردها فكان يتبسم ويقول لها:(لا تخافي علي فإني بخير، ولكن طمئنيني على فردوس، كيف هي الآن؟ ألا أصعد معك إليها؟)
وكان يعلم أنها أبت ذلك عليه من قبل مرات، فهو على يأس كبير، ولم تكن لجاجته في الطلب كلما دخلت عليه إلا ليرى كيف يكون جوابها في كل مرة؛ وكان يؤكد أنه سيدخل