للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[العقلية المصرية]

للدكتور محمد مندور

لست ممن يركنون إلى اليأس أو يدعون إلى تثبيط، وبودي لو نفثت في كل قلب إيماناً بالنفس وأملاً في الحياة حتى أرى جميع مواطنينا كالكراة من المطاط، كلما زدتها صدماً ازدادت قفزاً، ولكنني مع ذلك عودت قرائي الصراحة في علاج مشاكلنا، ولقيت دائماً ممن حظيت برأيهم تأييداً حاراً صادقاً. ثم أني أؤمن بأنه لا خير في التعامي عن الواقع، بل لا خير في إنكاره، لأن إنكاره لمن يمحوه. وهاأنا اليوم أعالج أخص ما تملك كأمة، وهو العقلية المصرية ولي في تلك العقلية رأي ثابت استخلصته من احتكاكي الطويل بعقليات الشعوب المختلفة وبخاصة الشعوب الغربية. وسأبسط هذا الرأي ثم أحاول تفسيره لنستنبط ما نستطيع من علاج.

كنت أنا وزملائي من المصريين نتلقى العلم سنين طويلة بالجامعات الأوربية مع طلبة من كافة الأجناس، ولاحظت أن الكثيرين منا كانوا يتفوقون على إخوانهم في الدرس تفوقاً واضحاً. ثم عدت وعاد زملائي؛ فإذا بالقليل منا من يوفق إلى اكتشاف جديد في ميدان المعرفة، بل إلى تجديد فكرة معروفة أو تعميقها، وعلى العكس من ذلك نسمع أن هذا الزميل الفرنسي، أو ذاك الإنجليزي قد اهتدى إلى نظرية غير معروفة أو كشف الحجاب عن مجهول في مجال المادة أو مجال الإنسان. وأنعمت النظر في هذا التناقض الواضح فاستقر بنفسي أن العقلية المصرية سلبية قابلة، بينما عقلية الغربيين إيجابية فعالة. فنحن نستطيع أن نحصل ما يلقى إلينا، ولسنا بلا ريب دون أحد في قوة الذاكرة، ولكننا لا نكاد نتخطى دور التقبل والتحصيل حتى يتبلد حمارنا، ولقد ينجح بعضنا في الجدل، ولكن مجهوده فلما يعدو فك الأفكار الأساسية كما تفك النقود إلى وحدات من البرونز، ولا يقف تأثير تلك العقلية القابلة عند ميدان المعرفة، بل يمتد إلى الحياة العملية ذاتها؛ فترى الكثيرين منا حتى المثقفين ضيقي الحيلة سيئي التصرف، قليلي الاعتماد على النفس والسير على أقدامهم أو الاهتداء إلى السبيل السوي عندما يضطرب حبل الأمور وتشتد المواقف هذه ظاهرة لا أظن هناك ما هو أخطر منها في حياتنا، ولابد من أن نلقي عليها من الضوء ما يظهر مواضع الخلل في بنائها

<<  <  ج:
ص:  >  >>