للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لعل من أكبر الأسباب التي كيفت العقلية المصرية على النحو الذي ذكرنا تلك الحقيقة الواضحة، وهي أنه قد يكون عندنا تعليم، ولكن مما لا شك فيه أنه ليست لدينا ثقافة، حتى لقد استطعنا في إحدى المقالات السابقة أن نتحدث عن أمية المتعلمين، والتعليم شيء والثقافة شيء آخر، وإن كان من الممكن أن يصبح التعليم، إذا أقيم على مناهج سليمة ونهض به أساتذة أكفاء، وسيلة من وسائل التثقيف. التعليم كما نلاحظه عندنا تلقين للمعارف، وأما الثقافة فتكوين للملكات، وهذا ما لا وجود له بيننا تقريباً، وفي الغرب نستطيع أن نقول إن عملية التثقيف تبدأ مع الميلاد، وهذا هو ما يعبر عنه المفكرون بقولهم إن خلف الأوربيين قروناً من الثقافة يتوارثونها ابناً عن أب. وهذا قول لا يخلو من تجوز، ومع ذلك فهو صحيح ولفهمه يلجأ بعض المفكرين إلى البحث في تأثير النشاط الثقافي على مراكزنا العصبية، وتوارث تلك المراكز مشكلة مكيفة، ولكن هذا بحث نتركه لأنه في نظرنا لا يقل غموضاً ومجازفة عن البحث فيما وراء الطبيعة، وإنما نقف على العكس من ذلك عند أمرين: اللغة، وطريقة الحياة. فالطفل الأوربي يحصل بتحصيله لغته اليومية طائفة كبيرة من المعارف التي تملأ سوق الحياة، وهو يحس بأثر تلك المعلومات الفعالة في كل أموره ويخبر صدقها عن تجربة؛ فيتمثلها تمثل الهضم، وإذا بها جزء من تكوينه العقلي، وهو يسير في حياته على طريقة لا تخلو، مهما بلغت من البوهيمية، من منهج وغاية. وتنظيم تلك الحياة المادية ذاته فيه ما يرفع عن كاهله الكثير من تفاصيلها، حتى ليتكلف أقل الجهد في إعداد ما يحتاجه من طعام أو كساء. وليس من شك في أنه كلما تخلصنا من تلك التفاصيل وأنزلناها منزلة الآلية تحرر الكثير من وقتنا لنصرفه في النشاط العقلي، وبخاصة القراءة؛ فالأم في بيتها والأب في عمله يجد كل منهما متسعاً لتغذية تفكيره، وإذا بجو المنزل تغمره الثقافة التي تنفذ إلى عقل الطفل إن لم تند خلاياه

لقد ناقشنا بإحدى الصحف مشكلة الأخلاق؛ فرأينا أن التربية لن تجدي في علاجها قدر ما يجدي إصلاح النظم التي تمكن الفرد من أن يصل إلى حقه ويدفع عن نفسه العدوان بوسيلة كريمة غير الرجاء الذي تفشي في بلادنا كالوباء. وباستطاعتي اليوم أن أجد في نفس هذا الإصلاح علاجا للعقلية المصرية. وليس بخاف أن العلاقة متينة بين العلم والخلق، وقديماً قال أحد المفكرين إن علماً بلا خلق خراب للنفس، وفي الحق ماذا يستطيع

<<  <  ج:
ص:  >  >>