منذ القدم والمستنيرين من الناس يقتتلون حول قادة الفكر، فمنهم من يدعوهم إلى الكفاح مع مواطنيهم عندما يدعو داعي الوطن، ومنهم من يود لو نأى بهم عن كل ضجة فانية ليتوفروا على خلق الأفكار الباقية، وصياغة المشاعر التي تتغذى بها الأجيال في كل زمان ومكان. وتلك قضية تستحق النظر فما لا شك فيه أن الكاتب - وبخاصة إذا كان انفعالي الطبع - لا يملك في بعض الأحيان أن يدفع إحساسه بالمسؤولية، فكلما رأى فساداً من حوله أو أحس ظلماً يقع على الناس أو جراحاً تصيب وطنه ثارت نفسه، وكأن سكوته تأمين على ما يرى أن لم يكن مشاركة فيه. ولقد يتساءل الناس من حوله عن سر حماسته لهذه الفكرة أو تلك دون أن يحظوا برد يقنع العاديين منهم لأن الرد الوحيد هو طبيعة الكاتب وحرارة قلبه
وموضع التدبر هو أن نتساءل عما يستطيع الكاتب عندئذ أن يكتب دون أن يصيب كتابته الفناء، وليس أشق على نفس الكاتب من أن يحس بأن جهده سيتبدد أنفاساً، وإن كل ما يخط لن يخلف أثرا لأنه وليد ملابسات يومية لن تلبث أن تتغير فتفقد كتاباته قيمتها. ولكن هذا قول ليس صحيحاً على إطلاقه، فإلى اليوم لا زلت أقرأ خطب ديموستين الزعيم الإغريقي الخالد يوم كان يكافح فيليب المقدوني ويدعو مواطنيه إلى مكافحته دون أن يثنيه عن ذلك حتى اليقين بأنه ومواطنيه سائرون إلى الهزيمة مؤمناً بأن الجهاد غاية نبيلة في ذاتها، وأنه من الخير أن تموت وسلاحك بيدك عن أن تنفق في فرق الجبان. ولا زلت أقرأ لروبسبير وهو يناهض ما صاحب الثورة الفرنسية الكبيرة من انحلال في الخلق وتقلب في العقائد وتيقظ في الشهوات واستحصاد للضغائن العمياء. ويدعو إلى أن يكون الطموح عملا على استحقاق المجد وتقدير الشعب، أقول أنني لا زلت أقرأ للخطيب الإغريقي أو الخطيب الفرنسي فلا أستطيع أن أقول مع القائلين أن الكتابات أو الأفكار التي تولدها ظروف خاصة سيصيبها الفناء. فكل كتابة تستطيع أن نخلد بما تحمله من عناصر إنسانية ثابتة، والإنسان هو الإنسان في كافة عصوره. وسيظل ابد السنين يهتز لمعاني الكرم النفسي
هذه إذن قضية الحق فيها واضح. ولكن ثمة قضية أُخرى أشق منها علاجا وهي: أيهما