أجدى على قادة الفكر: أن يتوفروا على فهم الإنسان وشق الحجب عن أسراره النفسية أم ينصرفوا إلى توجيهه وقيادته. وهنا قد يبدو التعارض واضحاً، ولكنه في الحق تعارض سطحي. وكبار الكتاب يجمعون دائماً بين الأمرين دون أن يقصدوا إلى أيهما. ففهمك للإنسان وتبصيرك إياه بحقائقه الغامضة فيه خير توجيه له. وأنه لمن الحمق أن يظن أشباه الأميين أن باستطاعتهم أن يخلقوا أمة أو يوجهوا رأياً توجيهاً ثابتا بالألفاظ الخطابية الرنانة أو بالجمل المرصعة الجوفاء، فهذه حماقات موقوتة التأثير وأما الأثر الباقي فهو ما تستمده من حقائق النفس لترده أليها، ولكم من مرة يكون من واجبك إذا أردت أن ترفع قلباً أو تحث عزماً أن تسلم له بادئ الأمر بحقه في أن يبتئس أو يتوانى عزمه، ولكم من مرة يكون في هذا التسليم ذاته أكبر ناهض بالنفوس، وأما المكابرة وأما التنكر لحقائق النفس البشرية ومحاولة أخذها بالضجيج فذلك تفكير عقيم.
وإذن فمشكلة الفهم أو التوجيه هي الأُخرىمحلولة في أعماقها. ولعل في تحديد العلاقة بين رجال الفكر وبين رجال السياسة ثم بين رجال الفكر وبين بيئاتهم مشكلات اشق من السابقتين
بعض رجال السياسة ليسوا من قادة الفكر ومنهم من لا يكاد. يقرأ كتاباً، وتلك لا ريب آفة شديدة الأثر على الحياة العامة، وقديماً رأى أفلاطون أن يقود الفلاسفة المدينة. وقادة الفكر بدورهم ليسوا جميعاً ممن يطيقون مجابهة الجماهير وخوض المعارك السياسية، ومن هنا تنشأ طائفة من السياسيين لا علاقة لها بالفكر وطائفة من المفكرين لا صلة لها بالسياسة، ومن عجيب الأمر أن ترى في التاريخ مفكرين سياسيين جاء تفكيرهم تقريرياً بحتاً بحيث لم يدعوا إلى عمل ولا نادوا بتغيير، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك كارل ماركس الذي يتخذه الاشتراكيون اليوم زعيماً لهم، فقد كان الرجل مؤرخاً عالماً لا سياسياً عاملاً، وهو لم يناد بتحقيق مذهب وإنما درس الماضي وتنبأ بأن تصيب العالم في يوم من الأيام أزمة اقتصادية تقضي طبيعتها إلا يكون لها حل غير الاشتراكية، ومع ذلك كم من السياسيين استطاعوا أن يتخذوا من مبادئه التقريرية دعوة إلى الثورة ومبادئ للعمل الإيجابي. ولقد يتفق أحياناً أن يقول مفكر بنظرية من النظريات في بلد ما، ثم لا تطبق إلا في بلد آخر، ولعل أوضح مثل لذلك مونتسكيو الفرنسي ونظريته في فصل السلطات، ففرنسا لم تطبق