الرصافي - الذي نحيي ذكراه - ثورة من ثورات الفكر المجدد، وداعية من دعاة النهضة العلمية الحديثة، فضلا عن كونه أميرا من أمراء الشعر، أطلق لفكره العنان في مواضع التفكير الصائب، ذلك التفكير الذي تنطلق منه حينا تأملات الذهن الباحثة عن شتى العلوم والفنون
كان الرصافي - رحمه الله - يبعث بصره (في كثير من الأحيان) جوالا في السماء في ذلك الكون الشاسع، في ضياء الشمس نهارا، وإلى كواكب السماء، إلى البدر المنير ليلا، فيصور بريشة الإحساس المرهف، ريشة الفنان الملهم، صورا رفيعة المغزى، تقترب من الحقائق شيئا كثيرا، معتمدة على فكر ثاقب، وتطلع متزن، ثم على إجهاد في البحث، والتتبع المستمر لأراء كبار الكتاب والمفكرين، فيصل بكل ذلك إلى كبد الحقيقة، ولا ينتهي منها شيئا حتى يبدأ بسلسلة من الأفكار الجديدة، شأن كل شاعر حر ومفكر مبدع
يجلس الرصافي ليلته بأفكار مجنحة، ونفس هادئة، وفكر مستقر، يرسل بصره في تلك الصفحة التي تضيئها أنوار النجوم الزواهر، والمجموعات النورية، فتحولها قطعة كبيرة لا تدركها الأبصار، شاعرية التكوين والتشكي، لا يمكن وصفها على حقيقتها إلا من شاعر ملهم، كالرصافي. . . قلنا يجلس ليلته، فلا يكاد يستقر بصره حينا حتى تثور شاعريته فيقول ويستمر في القول حتى ينتهي به المطاف إلى تكوين قصيدة مسبوكة الحواشي يحار لتكوينها الفكر، كما حدث في قصيدته الرائعة (تجاه اللانهاية) حيث يقول: -
في فضاء لو سافر البرق فيه ... ألف قرن لما أتى مستقره
ولو الشمس ضوعفت ألف ضعف ... لم تكن في أثيره غير ذره
ولو الفكر غاص فيه مسغذا ... لم يكن بالغا يد الدهر قعره
سعة تحسب المجرة فيها ... حلقة ألقيت بصحراء قفره
إن تكن هذه المجرة نهرا ... مستفيضا فشمسنا منه قطره