بعد أن تنتهي هذه الحرب تدخل في سجل التاريخ ونكون قد نسيناها أو تناسينا ما مر بنا من أهوال، سيقبل علينا أطفال الجيل الجديد يسألون ويلحفون في السؤال، فنحيلهم على كتبهم المدرسية حيث الأحداث قد صبت في كلمات وجمل تعجز عن تصوير ما خيم على العالم من خوف وهلع، ولا نقدم لهم إلا الأيام والشهور والأسماء والأرقام.
والأرقام والتواريخ كما كانت وكما ستكون، ثقيلة على الذاكرة، عسرة على اللسان، فلذلك ستبرز الأسماء إلى الأمام وتكون موضع التذاكر والنقاش، وخاصة ما دل منها على المعارك انتسبت حيناً إلى بقاع مترامية الأطراف كفرنسا والاطلنطي، ولم تحمل حيناً آخر إلا اسم مدينة أو بلدة، لا تحتل من خرائطهم إلا مقدار الثقب الصغير.
اتسعت رقعة المعارك قدماً مع نمو الجيوش، حتى إنها شغلت في الحرب الماضية مقاطعات شاسعة أو امتدت بطول بعض الأنهار، أما المدن فلم يكن لها كبير شأن إلا في أحوال خاصة، إذ كانت قلاعاً قوية منعزلة كلييج ونامور، أو نقط ارتكاز لخط دفاعي طويل كفردون.
وبدأت هذه الحرب وسمعنا بمعركة بولندا ثم النرويج، بل أن بلاداً فسيحة كالدنمرك ذهبت في ليلة لم يعقبها نهار، ثم البلاد الواطئة والفلندر وفرنسا. وفجأة ظهرت أسماء من نوع هو علينا جديد، احتلت مكانة خاصة، بل واعتبرها البعض من نقط التحول الهامة في تيار الحوادث، ومن هذه يكفيني أن أذكر على سبيل المثال: سمولنسك واستالنجراد.
كانت المدن في قديم الزمان حصوناً تصمد للأعداء شهوراً بل سنين، تغنى بحوادثها الشعراء وخلدت أسماؤها في تاريخ الحروب؛ فمن ذا الذي ينسى طروادة وحصانها الخشبي، وسقوط القسطنطينية أمام عبقرية محمد الفاتح، وارتداد نابليون تحت أسوار عكا وهو كظيم؛ ولكن الحروب ظلت تتطور ووسائلها تتعدد؛ حتى أصبحت مدافع الحصار أكملها استعداداً واشدها فتكاً، ولم تعد المدن - كما رأينا في الحرب الماضية - إلا مصايد للموت، فلم يرتد إليها المتقهقرون، بداخلها يحتمون، بل فضلوا الأرض الفضاء، ينبطحون خلف ثناياها، ويحتفرون في سطحها الخنادق ويمدون بجوفها السراديب