للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الظمآن. .!]

للأستاذ راجي الراعي

في ذلك المساء كنت عائداً إلى بيتي لأطرح على عتبته أعباء اليوم وأنا أمسح العرق الذي يتفصد به جبيني وألتقط حجارة البؤس وأرجم بها الدنيا، فشعرت بيد ناعمة تمتد إلى ونظرت فإذا بشبح في عينيه ألف شعاع انتصب أمامي وبادرني قائلاً: أنت من البائسين ولكن خفف عنك فالحياة التي ترجمها تدعوك الليلة إلى جلسة شراب تقيمها لك ولأمثالك في القصر القائم على تلك الرابية التي تراها فاذهب واشرب وتمتع، فسألته: ومن تكون أيها الشبح المشع؟ فأجاب: أنا الرحمة، وما هي إلا طرفة عين حتى حملة النسيم وتوارى عني فقلت لنفسي: هل لمثلي أن يتمتع بشيء في هذه الدنيا؟ هي ولا شك مهزلة جديدة فلأذهب إليها لأشهد فصولها وواصلت السير إلى حيث ألقيت بأحمالي على عتبة البيت، وخرجت والليل يشتملني، أهبط الوادي وأتسلق الجبل حتى بلغت القصر فإذا هو يعج بالخلائق يتدافعون بالمناكب ليستمعوا إلى الكلمات التي كانت تعيدها عليهم امرأة توسطت المكان، طويلة القامة بدينة، ورحت أشق الصفوف المتواصلة حتى دنوت من تلك المرأة فسمعتها تقول: أنا الحياة. . . أعرف أنكم البائسون من أبنائي الذين طالما عبست في وجوههم وقد رأيت أن أجمعكم منذ اليوم مرة في العام لأعرض لكم أثمن ما لدي من الكؤوس وأسكب لكم منها فتبتل شفاههم الجافة ببعض ما حرمتموه من دناني. . . أنا الحياة، ولي كؤوس وأفخرها وأجملها وأعزها ثلاث:

ورفعت بيدها الكأس الأولى وقالت: هذه هي الكأس الصفراء كأس الثروة من شربها اتسع أمامه مدى العيش وأقام القصور الناطحة السحاب واقتنى الأرض الفسيحة الرحاب ونال ما يشتهيه من الطيبات وتحدى الأقدار، ورفل بالدمقس والحرير وبسط الموائد المثقلة بما لذ وطاب من الطعام والشراب. . . ورمت الحضور بقبضة من الدنانير فهجموا يلتقطونها وصبت خمرة الثروة فشربوا جميعهم. . . أما أنا فلم أشرب. . .

ثم رفعت الكأس الثانية وقالت: هذه كأس الكؤوس، كأس المرأة يحفها الحب والجمال، من شربها فرشت له الجنات تجري من تحتها الأنهار وتدفقت عليه قبل الحسان وحملته أجنحة القلب إلى آفاق الغبطة والنعيم وتنشق الرياحين وسجع له الحمام وانتقل بين الزهر والورد

<<  <  ج:
ص:  >  >>