وذاق الشهد. . . وأطلقت في تلك القاعات فتاة غضة بضة سمراء الوجه دعجاء العينين رشيقة القد يفوح منها عبير الحسن وتشع عيناها بالإغراء والفتنة فتخاطفت وجنتيها وتنافست في ثغرها القبلات. . . وصبت الحياة خمرة المرأة فشرب الجميع. . أما أنا فلم أشرب. . .
ورفعت الكأس الثالثة وقالت هذه هي الكأس الحمراء، كأس المجد، كأس الفاتحين الغزاة من شربها دقت له الطبول وخفقت في سمائه الرايات وسارت في ركابه الجيوش واكتسح البلدان وأخضع الشعوب وثمل بخمرة النصر ونصبت له التماثيل والعروش. . . ودارت في الناس بأكاليل من الغار فزينوا بها رؤوسهم، وصبت خمرة المجد فشرب الجميع. . . أما أنا فلم أشرب. . .
كنا عشرة آلاف من بائسي (هيجو) يغص بنا القصر، وكان الجميع من حولي يهللون للحياة ويترنحون بخصرها ويثنون على كرمها وحنانها إذ جادت عليهم وهم المحرومون بساعة من ساعات نعيمها. . وكانت الحياة تطرب لبنيها وهم يطربون ولكن ساءها أن لا أكون من دعاتها المهللين وسكاراها الطروبين وراحت تسأل عني وقد جرحت كبريائها وما لبثت أن أقبلت علي والعيون تحدق إلينا والفوم يتهامسون وسألتني: من أنت؟ فأجبتها: أنا الظمأ. . الظمأ القامح، الظمأ كله! فقالت: ولم لا تشرب من كؤوسي التي أدرتها على رفاقك؟ فقلت: أنت تجهلين نفسك أو تعرفينها ولكنك تخدعين فالكؤوس التي عرضتها وسكبت فيها أيتها الضالة المضللة كؤوس وهمية خداعة لا تجدي ولا تروى. . إنك لا تستطيعين أن تعطي أكثر مما عندك، وما عندك ليس بالشيء الكثير ولا هو بالترياق لعليل مثلي فلو أعطيتني كل ما لديك من الذهب ونفحتني بكل ما لديك من النساء وصور الحب والجمال وزينت رأسي بكل ما لديك من أكاليل الغار ووهبتني الدنيا بأسرها لما اكتفيت ولا هدأت نفسي. . ما الفائدة من الكأس إذا لم ترو شاربها؟ أنا هو الإنسان، أنا هو الظمأ المستديم وليس في كؤوسك ما يرويني، أنا لسان من اللهيب يندلع وليس في وسعك أن تقطعيه، أنا نار ليس في يدك رمادها. . إن بينك وبين نفسي منذ تعرف أحدنا إلى الآخر لفلوات شاسعات كتب لي أن أظل مكتوباً بضرامها حتى يفتح الله لي شرفة من دارك على الآخرة حيث آمل أن أرى وجه الله وأذوب فيه وأرتوي. . أنا الظمأ وأنت لا ترويني، أنا الإنسان الكبير وأنت