تهت الليلة في مخارم الجبال مع (جوكليه) سعياً وراء المدينة الضائعة. إن هذا الكاتب ليهزني؛ فهو وصاف للعادات مرة، قصاص مغالٍ أخرى، متفلسف هزاء على نحو فولتير تارة، مؤرخ يمزج التاريخ بالأدب أحياناً. . . وهاأنذا أغامر معه الليلة في روايته الأخيرة؛ فأرشف العذوبة، وأهيم مع الخيال، وأسمع نداء الحكمة والحياة.
لا بأس على القراء أن يتيهوا معي، فالرواية طريفة والقصاص بارع. هاهو ذا (جوكليه) في جزيرة (لوسون) من الفيليبين يلتقي بفتى يتدفق حماسة وقوة، يريد أن يفتش عن كنز عظيم تركه ملاح صيني كبير، في مدينة ضاعت بين الجبال، في شرق الجزيرة منذ أربعة قرون. وكان نداء المجهول، وحلاوة المغامرة، يدفعان الفتى إلى البحث عن الكنز، فأثر في رفيقه القصاص وساقه معه.
وكان يصحبهما رفيق ثالث شاذ الطبائع، غامض العواطف، أسمه (دون انطونيو) عرفوه في الفندق. وكان هذا يود الهرب من المدينة الزائفة لأسباب غامضات.
وهام الثلاثة في طريقهم، وقد صحبوا دليلين قويين، وبضعة بغال. . . ثم تغلغلوا في قلب غابات المتوحشين. وكان يصادفهم أخطار ترعب، ومصاعب لا تحد: لذع من الشمس، وخبل من الهواء، وغرق في الماء، ونهس من الذباب، وتيهان في المستنقعات؛ فضلاً عن شهق الجبال وعمق الأودية، واشتباك الغابات، ووفرة الشباك المنصوبة على حفافي الطرقات.
وفاجأتهم قبائل النكريتو بسهامها في إحدى الغابات، ففروا بعد جهد وعذاب. ومضت القافلة الصغيرة تماشي الهضاب، وتصعد في الجبال، وتفتش عن (لمدينة الضائعة) في كل مكان. فاستيقظوا ذات يوم، بعد أن قذفهم واد عظيم، وإذا بهم يرون من شواهق الذرى، في حضن جبل، على حافة بحيرة راكدة: مزارع أرز واسعة، وآثار بناء شامخ، تقوم عند أقدامه مساكن صينية حقيرة. فخفوا نحوها، فاستقبلوهم بصمت وحذر وجفاء، وأدخلوهم باباً في ذلك البناء. . . فعلموا أنهم أضحوا سجناء في مدينة واسعة، قامت في قلب الجبل، لا يدركون من أمرها شيئاً. . .