هل آن لشمس الديمقراطية أن تغرب؟ هذا سؤال يطرح منذ أعوام في معرض البحث والجدل، ولكنه يغدو اليوم اشد خطورة، ويشغل جميع الأذهان والضمائر الحرة: فالنظم الديمقراطية تتحطم تباعا في أمم كانت بالأمس اشد الأمم تعلقا بالنظم والمثل الديمقراطية، والحكومات الدستورية تختفي. تباعا من الميدان لتقوم مكانها حكومات طغيان شامل، والحريات السياسية والاجتماعية القديمة تخنق وتختفي لتستأثر بها وتتصرف فيها أحزاب وجماعات سياسية جديدة تقوم مبادؤها ودعوتها على القوة القاهرة، والديمقراطية تهتز اليوم حيثما استطاعت أن تبقى وتتسرب إليها عوامل الوهن والفساد: فهل يكون ذلك إيذانا بأن صرح الديمقراطية غدا على وشك الانهيار، وان الديمقراطية تسير إلى مصرعها النهائي في المستقبل القريب؟ هذا ما يتنبأ به أصحاب النظريات والمثل الجديدة القائمة على الطغيان الشامل، والقومية المتطرفة، وإنكار النظم البرلمانية، وخضوع الفرد المطلق، والإيمان بالقوة المادية: أو بعبارة أخرى هذا ما يقوله دعاة الفاشستية والوطنية الاشتراكية الألمانية.
والحقيقة أن الديمقراطية تجوز اخطر أزمة عرفت في تاريخها. ويجب قبل كل شئ أن نعرف الديمقراطية بإيجاز، فهي في الأصل كلمة يونانية معناها (قوة الشعب)، وهي مبدأ سياسي اجتماعي يقوم على المساواة التامة بين الأفراد في الحقوق والواجبات، وغايتها الجوهرية أن يشترك الشعب كله في إدارة الدولة أو بعبارة أخرى أن يحكم نفسه بنفسه: والنظم البرلمانية اظهر وسائلها لتحقيق هذه الغاية. والديمقراطية الأوربية الحديثة ترجع إلى الثورة الفرنسية. ولكنها لم تستطع ثباتا في البداية، واستمرت نحو نصف قرن تناضل في سبيل مثلها، ولم تتوطد وتزدهر إلا في أواخر القرن التاسع عشر، بيد إنها لم تتقدم إلا في غرب أوربا. أما في شرق أوربا ووسطها، فقد كانت الملوكيات القديمة في روسيا وتركيا والنمسا والمجر وألمانيا تطاردها وتخمد مثلها بكل ما وسعت. ثم كانت الحرب الكبرى، فانهارت الملوكيات القديمة الطاغية، وقويت المثل والمبادئ الديمقراطية، وظفرت الديمقراطية، بإقامة نظمها في الجمهوريات الجديدة الفتية في روسيا، والمانيا، والنمسا،