نعم، كذلك قال السياسي الخطير ديجول، وقوله من وجهة نظره سديد معقول؛ فإن الجنرال يرى على ما يظهر أن العرب دوابُّ سُخِّروا لنقل الأحمال وجر الأثقال، أو هم على رأيه الأفضل عبيدٌ خلقوا للخدمة والاستغلال؛ ومتى عرف لحيوان أو العبد حقه وواجبه، فقد حطَّم راكبه أو قتل صاحبه!
بهذا المنطق الفرنسي وحده تستطيع أن تعقل ما قال هذا الرجل، فإذا أكرهت منطق الناس، على تصحيح قوله بالقياس، فقد حمّلته ما لا يطاق، وكلفته ما لا يدرك! وأي عقل غير عقل الجنرال يُسيغ أن فرداً من نوع الإنسان يرى في نهضة أخيه الإنسان، مشكلاً تعقد لحله المؤتمرات، وخطراً تقام لصده المعسكرات، وسبباً يختصم لأجله العالم بأسره؟!
ولقد زعموا أن (الانتداب) رسالة الغرب إلى الشرق، فهُوَ يحيل صحاريه فراديس، ويجعل أناسيّه ملائكة؛ فما بالهم إذن يتسعّرون بالغيظ، ويتنمرون بالعداوة، لأن العرب قد أدركوا أنهم كسائر الناس، لهم وطن لا يشركون به، واستقلال لا يساومون عليه، وسلطان لا ينزلون عنه؟! أليس ذلك لأنهم يرمون بنشر مدنيتهم إلى استعباد الجسوم، وبتعميم ثقافتهم إلى استرقاق الحلوم، وبفرض انتدابهم إلى امتلاك الأرض؟. . .
أتدري من أسمج من ذلك العتلّ الغليظ الذي يلقى بجسمه اللحيم الشحيم على صدر الفتاة الرشيقة الرقيقة في ملأ من الناس، ثم يفغر فاه الأبخر، ويصيح بملء صوته الأصحل: أحبك، فلابد أن تحبيني، وأدعوك، فلا مناص أن تجيبينني؟ أسمج منه ذلك الطفيلي الرقيع الذي يقتحم عليك دارك ويقول لك: صادقني لأنني أحب طعامك، وضيفني لأنني أريد إكرامك، وعاهدني لأكون سيدك وإمامك، وأطعني لأقوم في كل أمر مقامك؛ فإن أبيت. أو تأبيت فالسيف، حتى تقول أنا المضيف وأنت الضيف!
يا لكثافة الظل! أيهذه الرقاعة الثقيلة والفضول البغيض يطمعون أن يحملوا الغرب في شمال أفريقية، وفي لبنان وسورية، على أن يأخذوا (الجنسية) ليعطوا الدين، ويمنحوا الثقافة ليسلبوا العقل، ويدخلوا في التحالف ليخرجوا من الوطن؟
يا لسخافة العقل! أبهذه النية المدخولة والكلام المزور يخادعون خمسين مليوناً من العرب تثور في دمائهم أربعة عشر قرناً من التاريخ المجيد الحافل بالنبوة الهادية، والخلافة العادلة، والفتوح المحرِّرة، والقيام على ملك الله بالعمارة والعدل، والمحافظة على تراث