وقد يكون من الإنصاف للحق والتاريخ أن نثبت هنا آراء غيره، ممن عاصروه، في أسباب طلبه هذا الأمر، وانهماكه فيه: يروي المسعودي أن ابن عباس كان يقول (أما والله ما عرفت عبد الله إلا صوّاماً قوّاماً؛ ولكني ما زلت أخاف عليه منذ رأيته تعجبه بغلاتُ معاوية الشهب؛ وكان معاوية قد حجّ فدخل المدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء، عليها رحائل الأرجوان، فيها الجواري الحسان، عليهن الثياب معصفرات، ففتن الناس بموكبه)
وقال ابن الزبير لامرأة عبد الله بن عمر بن الخطاب: إنني لم أخرج ولم أطلب الخلافة إلا غضباً لله وللمسلمين من أثرة معاوية وابنه، فهم يستأثرون بالفيء دون الناس، ويستحلون محارمَ الله. قال هذا وسألها أن ترجو زوجَها في مبايعته؛ فلما جاء زوجها ذكرت له ابن الزبير وعبادته وجهاده، وأثنت عليه قائلة إنه يدعو إلى طاعة الله عز وجل وأطنبت في مدحه، ثم طلبت من زوجها أن يبايعه ويؤيده، فأجابها ابن عمر (ويحك! أما رأيت البغلات الشهب التي كان يحج عليها معاوية قادماً إلينا من الشام؟ قالت، بلى! قال والله ما يريد ابن الزبير بعبادته غيرهن!!)
فهذان اثنان من أقطاب الرجال في عصره، ومن ذوي الشرف والفضل والنزاهة في المسلمين، يقرّران أنه ما يبغي إلا الدنيا، وأنه يتّخذ من العبادة سلماً يرقى به إلى قلوب الناس، ليساعدوه على قضاء مأربه في الخلافة
والذي يمكن أن نستنبطه من ظروف الحوادث في ذلك العصر، أن سعيه وراء الخلافة كان مبنياً على طائفة من الأسباب إذا راعيناها جميعاً، أمكن التوفيق بين وجهات النظر المختلفة؛ فقد أراد أن يليَ أمور المسلمين، ليحقق نزعتَه ويشبع رغبته، وليعدل في المسلمين، فيردّ الأمور إلى حالتها الأولى، ويقيم الأمر بالقسط؛ فكأنه كان يبغي بذلك أمْري الدنيا والآخرة معاً