لا يستطيع الإنسان فهم الحوادث التاريخية وتفسيرها على أصولها الحقيقية إلا إذا عرفنا العوامل الجغرافية التي لعبة دورها في هذه الحوادث، فالتاريخ والجغرافية علمان لا ينفصلان وإن كان لكل منهما شخصيته الواضحة، وما أشبه الحوادث التاريخية برواية تمثيلية قد بدأت منذ الخليقة وتعددت فصولها على مر الأيام. وكلما أقبلت الأعوام زاد عدد الممثلين وأشخاص البطولة فيها كل على قدر أهميته. وما أشبه هذا المسرح الذي نمثل عليه هذه الرواية بحوادثها ومغامراتها بالعالم الذي نعيش فيه. وإذا كنا لا نستطيع متابعة حوادث الرواية التمثيلية إلا إذا ألممنا بمسرحها؛ فكذلك لا نستطيع فهم الحوادث التاريخية وتفسيرها على حقيقتها إلا إذا درسنا مسرحها وفهمنا هذه العوامل الجغرافية التي تحكمت في هذه الحوادث وسيرتها في هذا الاتجاه. لهذا كانت للعوامل الجغرافية الأهمية الأولى لدارسي الحوادث التاريخية ولكل من يحاول فهم التاريخ على حقيقته.
نظرة سريعة إلى الكرة الأرضية بنصفيها الشمالي والجنوبي نرى اليابس يسود النصف الشمالي إذ تشغله معظم القارات في الوقت الذي تسود فيه المحيطات النصف الجنوبي؛ ولهذا كان النصف الشمالي أكثر سكانا وبتالي أكثر نشاطا وإنتاجا، ولهذا كان أيضاً مهدا للحضارات الأولى التي خرجت للعالم ومنه خرجت طلائع المغامرين الذين اكتشفوا النصف الجنوبي ومهدوا لفتحه واستعماره، وهكذا ساد النصف الشمالي النصف الجنوبي، وهكذا تحكم اليابس في الماء بفضل كثرة السكان وما يرتبط بهذه الميزة من نتائج لها تأثيرها الخاص.
ونحن أيضاً إذا نظرنا إلى خريطة العالم بنصفيها الغربي والشرقي وجدنا النصف الشرقي معظمه يابس تسوده أكبر مساحة من القارات في الوقت الذي تسود فيه المياه معظم النصف الغربي. وهنا أيضاً نجد النصف الشرقي قد مثل في النصف الغربي ما سبق أن رأيناه في النصف الشمالي والنصف الجنوبي للكرة الأرضية؛ فالأسباب واحدة والنتائج متشابهة.
وإذا نظرنا إلى العالم من زاوية أخرى وجدنا المناخ يبلغ أقصى برودته في الأنحاء الشمالية والجهات الجنوبية؛ أو بعبارة أخرى حول القطبين. لذا كانت هذه المناطق لا