يقول حكيم الشعب:(اعمل خيراً وارمه في البحر). فماذا يملي عليه هذا القول؟ إنه يرى فناء كل حي، وزوال كل نعمة، وضياع كل مجد؛ ويرى إلى ذلك أن ذكرى العمل الصالح تبقى حية في الأذهان والقلوب والضمائر، وأن لفعل الخير حلاوة تجعل منه غاية جديرة بأن تُطلب لذاتها وكفيلة وحدها أن تحقق السعادة في نظره ليست في جاه نبلغه، أو صيت نذيعه، أو مال نصيبه، إنما هو في راحة الضمير وهدوء النفس، ولا سبيل إلى ذلك بغير سلامة النية وصفاء الطوية وهما لا يتفقان مع طلب الخير لغير الخير. اعمل خيراً وألق به في البحر، وترقب السعادة بعد ذلك تأتك طوعاً من حيث لا تدري ولا تحتسب.
أيختلف هذا الاتجاه المثالي في شيء عن اتجاه الشاعر الفيلسوف (جوته) في قصة (فاوست)؟. لقد جاهد فاوست جهاداً طويلاً مريراً دون أن يظفر بشيء، ولكن حياته لم تضع هدراً إذ رفعه المؤلف إلى جنات ربه، وما ذلك إلا لأنه قد أحس بالحق والخير والجمال فجاهد في سبيلها وكان في جهاده هذا خلاصه. نعم إن معنى تلك الحياة والأثر الذي خلفته خطى فاوست على صفحات الزمن هو أنه علينا أن ندأب ما استطعنا في سبيل المثل العليا، وسيان بعد ذلك أأصبنا نجاحاً أم إخفاقاً، فالجهاد نبل في ذاته). ذلك هو الاتجاه الفلسفي الذي تنطوي عليه قصة فاوست وهو نفسه الاتجاه الذي تنطوي عليه عبارة حكيم الشعب (اعمل خيراً وألق به في البحر). أي هدوء تحس به النفوس الخيرة إذ تتمثل هذا الدرس فتغالب بقوته السحرية تيار الجشع والاستهتار. حقاً إن الفلسفة الشعبية الساذجة لتساهم مع الفن والدين في التخفيف من أعباء الحياة.
وبعد، أليس ما ذهب إليه الشعب في حكمته أو (جوته) في قصته، من اعتبار الخير غاية تُقصد لذاتها، هو في جوهره عين ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني العظيم (عمانوئيل كنط) في مذهبه الأخلاقي الذي يرى أن الخير الأسمى الذي يتعين علينا أن نخضع له هو