(الواجب) المجرد الذي يمليه علينا (أمر مطلق) يصدر من تلك القوة الذاتية الخفيفة التي ندعوها (الضمير)، تلك القوة التي تعتبر صورة الله في نفوسنا، فالله في الأبدية والضمير في أعماق النفس البشرية؟ إن السعادة في نظر كنط إنما هي في الخضوع للأمر المطلق الصادر من الضمير، والعمل للواجب لذاته وأمر يتفق تماماً مع ما ذهب إليه كل من جوته والحكيم الشعبي. . .
ويعرض أرسطو لنفس المسألة فيحصر الخيرات في ثلاثة: إما اللذة، وإما المجد، وإما الحكمة. ويُعمل عقله أيها يختار على اعتبار أنه الخير الأسمة؟ فيرى اللذة شعوراً نفسياً يصاحب فعلاً من الأفعال أو وظيفة من الوظائف، وعليه فلا يمكن أن تكون غاية في ذاتها؛ وإنما هي عرض يزول بانتهاء الفعل أو الوظيفة، ويرى المجد لمال نصيبه، أو شهوة تنالها، أو تكريم نحصل عليه، فليس المجد هو الغاية القصوى، إنما الغاية المال أو الشهرة أو التكريم. وهكذا تنتهي فلسفة أرسطو الأخلاقية إلى اعتبار الحكمة هي الخير الأسمى الذي ينبغي أن نطلبه ونعمل وفقاً له، وما الحكمة إلا تغلب قوى العقل على قوى الحس، وتفضيل السعادة الدائمة على اللذات المؤقتة، ونشدان الاتزان النفسي وراحة الضمير - وهل لأحدهما أو كليهما أن يتحقق ما لم (نفعل الخير ونلقه في البحر) كما يفعل الحكيم الشعبي، وما لم (ندأب ما استطعنا في سبيل المثل العليا) كما فعل (فاوست)، وما لم نصغ لصوت الضمير الكامن في أعماق نفوسنا شأن (عمانوئيل كنط)؟!
فن السعادة:
حلا للأستاذ الزيات أن يسأل قروية ساذجة:(كيف ترضى بالحياة وهي فقيرة، وتبسم للدنيا وهي منهوكة)؟ فأجابت:(الماء في الكوز والعيش مخبوز). ثم مضى أستاذنا يحاورها حتى ينتزع من فمها درساً غالياً في فن السعادة. قالت أم عامر:
(نشأتُ كما تنشأ القرويات الفقيرات، على التلول كالدجاج وأنا طفلة، وبين الحقول كالذئاب وأنا صبية؛ آكل العشب وأستمرئه، وأشرب الكدر وأستسيغه، وألبس الخشن وأستلينه، وأفترش المدر وأستوطئه، وأعالج الصعب وأستسهله. والذي أحلى المر في فمي، وجمَّل القبيح في عيني، وألان الغليظ لجانبي: صحي كصحة الظبي الشادن لم تجنح يوماً لراحة، ولم تحتج يوماً إلى دواء؛ ومرانة على عنف الطبيعة لا تفرق طاقتها بين صبح ومساء، ولا