للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أتاتورك]

للأستاذ محمود غنيم

طاف الحمام بعاهل الأتراك ... صبراً (فروق) قد احتسبت فتاك

ما مات فرد وورى بل هوى ... من أفقه فلك من الأفلاك

صاد القضاء النسر وهو محلق ... واها لنسر عالق بشراك

مات مصطفى كمال، وليس عجباً أن يموت في هذه السن الباكرة، إنما العجيب أن يمتد به الأجل فوق ذلك! إن ثمانية وخمسين ربيعاً عمر قصير إذا أضيفت إلى رجل من عامة الرجال، أما إذا أضيفت إلى عاهل الترك فإنها بمثابة قرون وأجيال. لو كان هذا الرأس من ماس لذاب؛ ولو أن تلك الأعصاب من حديد لاعتراها البلى؛ ولو أن هذا الجسم قلة من قلل الجبال، لأسلمه العمل المضني إلى الانحلال.

مات مصطفى، وأسدل الستار على ذلك الوجه الذي قدت عضلاته من الجرانيت، وانطفأت هاتان العينان بل الكوتان اللتان تشعان السحر والمغناطيس، وتنفذان إلى أعماق القلوب، وتنمان عن إرادة من فولاذ.

مات الرجل الذي كان معبود قوم، وقذى في عيون آخرين. مات الثائر الذي حكم القضاء الجائر بإعدامه، فلم يصبه سهم من سهامه. مات الذي طالما نصبت المؤتمرات شركاً لاغتياله، فلم يقع في حباله. مات الذي ناهض السلطان، ودوخ اليونان، وحارب الحلفاء في صف الألمان، فلم يجد الموت إليه سبيلا، كأنما هو في جفن الموت والموت وسنان.

مات مصطفى ميتة ابن الوليد على فراشه، لم يقطع شلو من أشلائه، ولم تسل قطرة من دمائه، فلا نامت أعين الجبناء!

كانت أمة محلولة العرى، مفككة الأوصال، أنهكها من الداخل استبداد الخلفاء، ومن الخارج انتصار الخلفاء؛ غريبة في أوربة بدينها وعاداتها، لا هي من الشرق ولا هي من الغرب، فجمع مصطفى تلك الأشلاء المتناثرة، وواءم بين هذه الأطراف المتنافرة، حتى استقام له شبه هيكل من العظام، كساه لحماً، وركب له أعصاباً، وشق فيه حواس، ثم نفخ فيه من روحه، فإذا هو بشر سوى، مقطوع الماضي عن الحاضر، لا يمت أوله إلى آخره بآصرة من الأواصر، فلا غرو إذا قلنا: إن مصطفى كمال، طراز وحده في الرجال. وإننا لنجور

<<  <  ج:
ص:  >  >>