عليه وعلى الحق معه إذا قارناه بموسو ليني في الجنوب أو بهتلر في الشمال، فان المعجزة إنما هي في إحياء الميت، أما إحياء الحي فليس من المعجزات في شيء. فان كان هناك فقيد يستحق التخليد، تضاف إلى اسمه البلدان، وتقام له التماثيل في كل مكان، فهذا هو مصطفى كمال، لا غيره من أشباه الرجال الذين تنحت لهم التماثيل من الصخر، وكان جديراً بها أن تصاغ من الشمع، ثم تسلط عليها أشعة الشمس
لم يكن الأثر الذي أحدثه مصطفى كمال قاصراً على رقعة من الأرض، ولكنه غير اتجاهات الأفكار، وامتد إلى النظم التي تواضع عليها البشر، فقلبها رأساً على عقب. إنه لم يؤمن بسنة التطور في إنهاض الأمم، ولم يعترف للزمان بعمل في تكوين الشعوب، بل قال بالطفرة، ثم شفع القول بالعمل، فدفع بأمته من خلف، في قسوة وعنف، ثم سار وأوغل في سيره، والناس في شك من أمره. ولشد ما شده العالم حين رآه يجتاز السبيل، ويتخطى العقابيل، بالغاً بأمته حيث يريد في سلام واطمئنان، والزمان ينظر إليه في خجل، لأنه أسقطه من حسابه ولم يعترف له بعمل
كان مصطفى مثالاً حياً للرجل الثائر، أظلته الثورة من مهده إلى لحده، ما حمل على رأي إلا جرّحه، ولا سيم خطة إلا فندها، ولا حارب تحت لواء قائد من القواد، إلا وجه إليه مرير الانتقاد. ثار في طفولته على فلح الأرض ورعى الأغنام، وثار في شبابه على عبد الحميد ثم على وحيد، وثار في كهولته على العادات والتقاليد. وليست عظمة الرجل في أن يثور، فان الثائرين في الرجال كثير، وما أيسر الانتقاد، وأسهل الهدم على من أراد! ولكن مصطفى لم يكن هادماً فحسب، بل كان هادماً بانياً، يبني الجديد على أطلال القديم، ولا يعمل المعول حتى يضع التصميم
أراد مصطفى استغلال بلاده فلم يلجأ إلى الكلام، إلا بمقدار ما يمهد الكلام للحسام، ولم يلجأ إلى الاستجداء، لعلمه أن الاستقلال أخذ لإعطاء، ولكنه أسمع الغاصب المحتل صوت احتجاجه عن طريق المدافع الدوية، والسيوف المقعقعة، فكان صوتاً يخترق حجاب السمع، وكان أذاناً يطرق الصم من الآذان. وما كان لمصطفى بفلول جيوشه الحديثة العهد بالانهزام أن يطرد المحتلين، وأن يكبح جماح الجيران الطامعين، ولكنها العقيدة المتغلغلة في الصميم، إذا اقترنت بالحق الصراح، والرغبة المدججة بالسلاح، لم يقف في طريقها شيء،